عرب ما بعد "كورونا"

عبيدلي العبيدلي 

طال الزمان أم قصر، تفاقمت جائحة الكورونا، ام تقلصت، تضاعفت فداحة الخسائر المالية المتوقعة، جراء هذه الجائحة العالمية، أم بدأت تأخذ طريقها في التراجع، استمر اتساع محيط دائرة تواصلها الاجتماعية، أم تراجعت سرعة تمدد مساحة تلك الدائرة، وبدأت في الانكماش والعودة إلى حيزها الضيق... إلخ. الأكثر أهمية من كل ما تقدم، هو ذلك الإجماع الدولي غير المسبوق على أن عالما جديدا لمرحلة ما بعد الكورونا آخذ في التشكل، وعلى المستويات كافة، الاقتصادية والسياسية، والمجتمعية على صعيد كل مكون سياسي، على حدة، إقليمي كان ذلك المكون أو قومي، من جانب، وفي إطار دولي متكامل من جانب آخر. 

كل ذلك يدفعنا نحو مثل هذه القراءة، التي ربما يعتبرها البعض مبكرة بعض الشيء، وربما يشوبها التشاؤم، مجموعة التحولات المحتملة التي بدأ يلوح في أفق العلاقات الدولية محياها، مع التغييرات المصاحبة لها، التي يقف وراءها تفشي فيروس الكورونا على النحو الفائق السرعة الذي انتشر به، والأرقام الضخمة التي سجلها ضحاياه، والسلوك السياسي، المفاجئ إلى حد ما، الذي سيطر على نهج قيادات العالم، بشكل متفاوت، عند تصديهم لمحاربته.  في صلب تلك التحولات كافة، كان هناك ما هو مشترك، دون تجاوز أو إهمال لتلك الفروقات النوعية المصاحبة لسلوك هذا البلد دون ذاك، أو السياسات التي باتت تأخذ بيد كتلة سياسية معينة بخلاف أخرى، هو ان النظام الدولي القائم، الذي تشكلت معالمه في أعقاب الحرب الكونية الثانية على أبواب مرحلة جديدة.

ونحن على أبواب تحالفات من نمط جديد، تختلف في مكوناتها عما تمخضت عنه الحرب الكونية الثانية. وهو أمر سيجد العالم نفسه أمامه، طوعا أو إجبارا.  أول تلك التحولات هي تلك الناجمة عن الخسائر الاقتصادية/المالية الفادحة التي ألحقها الفيروس بأكبر الاقتصادات العالمية، مثل الولايات المتحدة والصين، وألمانيا واليابان، والتي تهدد بإعادة موقع كل منها في درجات سلم قائمة الاقتصاد العالمي. الأبرز بينها احتمال تفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي، كي يحتل المنصب الأول، ليس على مستوى القيمة المالية المطلقة الذاتية لكل منهما على حدة فحسب، بل على صعيد العلاقات التي يمكن ان ينسجها مع دول العالم الأخرى، تتقدمها تلك الأكثر تضررا من تفشي الفيروس. 

السؤال المنطقي، بل والطبيعي، والأكثر إلحاحا المطلوب منا – كعرب - الإجابة عليه، وبمصداقية وشفافية ذاتيتين هو: هل نحن مهيؤون للتفاعل مع مثل هذا التحول؟ الأمر هنا لا يقتصر على اتخاذ قرار عشوائي، أو القفز إلى نتيجة تبدو منطقية لكن مصدرها ردة فعل اعتباطية تحمل في أحشائها الكثير من التحديات، إن لم يكن المستحيلات.  القرار العربي المطلوب، والمسؤول هنا، لم يعد مجرد تبني سياسة اقتصادية، معينة، بحاجة أن تسبقها استعدادات سياسية مدروسة فحسب.

فقد دأب العرب على اختيار مثل هذا السلوك منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، عند التفاعل مع العلاقات الدولية التي تولدت خلال مرحلة الحرب الباردة، وتلك التي أعقبتها، بكل ما نتج عنها من معاهدات دولية كان العرب جزءا منها، بل والأساس في بعضها، وما فرضته من تحالفات، ربما يصعب، "التملص" منها في حال وجود القرار المعارض لها في مراحل لاحقة.  ثاني تلك التحولات هو ما سوف تنجم عنه الصراعات الإقليمية، والوطنية على المستوى القطر العربي الواحد، والمصير الذي ستؤول إليه، يتقدمها الصراع مع العد الصهيوني، الذي كما يبدو تلوح في الأفق سعيه نحو تحول جديد يهيئ نفسه كي يقبل بها، ويكون قادرا على التعامل "الانسيابي المرن" مع إفرازاتها، بما في ذلك أولويات تحالفاته الدولية القائمة، التي نسجها منذ اغتصابه للأراضي الفلسطينية في أعقاب الحرب الكونية الثانية. 

ومرة أخرى سيجد العرب أنفسهم مطالبين، شاءوا ذك أم أبوا على التعامل مع ذلك التحول الصهيوني، وربما، وهو ما يخشى منه، التعايش معه، بعد القبول به، دون إغفال خيار الرفض.  في كلتا الحاتين، وكي لا تكون النتائج محبطة وباهظة التكاليف، ينبغي، على العرب، ومن الآن والعالم يعيش موجة جائحة الكورونا أن يرسوا قواعد العلاقة التي يرونها مع ذلك العدو التاريخي، شريطة ان يكون القرار مبنيا على معطيات علمية يستخرج منها سياسات مستقلة غير خاضعة لضغوط خارجية تمارسها الفرق الرئيسة في ساحات ملاعب عالم ما بعد الكورونا. 

يستتبع ذلك تلقائيا، ومنطقيا، تحد من نوع آخر هو كيف سيكون عليه شكل المنظومة العربية بعد انقشاع غيمة جائحة الكورونا، في ظل الصدامات الداخلية المتفاقمة بين البلدان العربية كمنظومة، وفي نطاق كل بلد عربي على حدة.  مرة أخرى هنا، لن يجدي التعامل مع الواقع العربي الممعن في تعقيداته حينها، بردة فعل عشوائية تتحكم فيها الذهنية العربية التي تسير الأمور اليوم، وعلى النحو الذي نراه. 

مصدر دعوة العرب كي يهيئوا أنفسهم لعالم ما بعد الكورونا تلك التجارب العربية المريرة السابقة التي تجرعنا كؤوس حنظلها في أعقاب الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، دون الاستفادة الجدية منها، والتي كان من بين الأسباب المباشرة التي قادت إلى تلك الكوارث التي تكبدها العرب، هو العفوية التي سادت الذهنية العربية حينها، والتلقائية التي سيرت القرارات العربية التي حكمت تحالفاتنا العالمية في أعقاب كل منهما.  

فقد اوصلتنا الحرب الأولى منهما، إلى التقسيمات العربية التي ما نزال نتجرع سلبياتها، في حين أوصلتنا نتائج الثانية إلى نقل ما جاء في اتفاقية سايس – بيكو المشؤومة من حيزها الورقي إلى حيزها الحقيقي الذي نجم عنه ضياع فلسطين أولا، وتأسيس الكيان الصهيوني، ثانيا وليس اخيرا.  لذلك، وطالما ما يزال العالم  حالة مخاض شبيهة، إلى حد بعيد، بحرب كونية ثالثة غير معلنة، وبينما نشاهد العديد من البلدان، ومن بينها دولا صغيرة تعمل على تهيئة نفسها لمرحلة ما بعد الكورونا، نجد أنفسنا نحن العرب، ككتلة سياسية واحدة، وعلى مستوى كل قطر عربي على حدة، أبعد ما نكون عن  طريق التهيؤ لمرحلة ما بعد الكورونا، رغم أن كل المؤشرات تكاد أن تؤكد أننا سنكون من بين الدول الأكثر تأثرا بنتائج تلك المرحلة، سواء بفضل موقعنا الإستراتيجي في خارطة العلاقات الدولية، أو بسبب المكانة المميزة التي نشغلها في خارطة علاقات أسواق النفط العالمية.  كل ما هو مطلوب أن نبدأ في الاستعداد، قبل فوات الأوان، وليس بعد أن تقع الفأس في الرأس، كما يقول المثل العربي محذرا.