قصة الطوفان الكبير

علي بن سالم كفيتان  

 

السماء تمطر بغزارة والرعد يكاد يزلزل الأرض من تحت أقدامنا والبرق يلوح لنا من شقوق كوخنا المصنوع من أغصان الأشجار والمغطى سقفه بأعواد القش المهترئة ليضيء كل جنباته... المياه تزحف من تحتنا ونحن واقفون... سلمى الصغيرة تبكي وتسألني بحرقة... أين أبي؟ أخذتها من الأرض فالتصقت بي ووسط هذه الموجة الهوجاء من الرياح والمطر أحس بدموع سلمى الدافئة على رقبتي وهي تنساب بهدوء تحت قميصي بينما أنا لا زلت ممسكاً بالفانوس فهو أغلى الأثاث المنزلي رغم أنه لم يعد يعمل فقد أطفأه الطوفان ويتشبث في إزاري أخويّ سالم ومحمد دون أن ينطقا بكلمة... اهتز الكوخ ودخلته المياه من كل مكان ونحن واقفون على بضع صخور في وسطه.

في هذه اللحظة الصعبة تذكرت نصيحة أبي يومًا حيث أرشدني إلى كهف حجري به مغارة عميقة وقال لي هذا المكان آمن من القصف أيام الحرب فكان الأهالي ينزحون إليه كملجأ وقت اشتداد القصف المدفعي العنيف القادم من المحطة الجوية الرابضة على أطراف المدينة... فقلت في نفسي لا حل إلا المغامرة بالذهاب لهذا المكان الآمن ترددت قليلاً ولكن سلمى أجبرتني على اتخاذ القرار فدموعها أحرقتني من الداخل وتنهداتها الحزينة في أذني لم تدع لي مجالا للتردد.. أسقطت الفانوس العاطل من يدي وقلت للأخوين بصوت مرتفع تمسكوا بي جيدًا وخرجنا إلى الطوفان.

تكاد السماء تطبق على الأرض من شدة المطر والريح يعصف بكل شيء مشينا بضع خطوات في تلك الأرض الموحلة وصمتت سلمى وانقطعت دموعها ولم أعد أعلم ماذا يجري خلفي فكرت للحظة أن أعود للكوخ ولكنني آثرت الاستمرار في المشي فقد اتخذت قرار اللاعودة  فاستجمعت قواي واتجهت لموقع الكهف بحكم الغريزة المكانية فلا ضوء ولا معالم باتت واضحة أمامي تمر علينا قطعان من الأبقار وهي تطلق ثقائها وتعدوا مسرعة بحثا عن النجاة منحتني تلك القطعان شيئاً من الشجاعة... البرق يحول السماء إلى لوح زجاجي مكسور وتظهر لي ولو للحظات معالم الطريق... تعثرنا طوال تلك المسيرة وانزلقت أقدامنا وأخذت الأشجار أجزاء من أجسادنا الهزيلة لكننا لم نوقف المسير إلى وجهة النجاة.. لم أعد أحس بالاثنين من خلفي هل هما معي أم لا... ولكن سلمى لا زالت تسألني مرارا وتكرارا وبصوت مبحوح وحزين... أين أبي؟ وهي ترتعد فرائسها من شدة الخوف والبرد معا...

انتابني شعور بالقوة عندما تأكد لي أنني أسلك الطريق الصحيح للمغارة وتحسست رأسي أخوي من خلفي فحمدت الله أنهما لا زالا معي وخف المطر قليلاً وتوقف الرعد المخيف ووصلنا إلى المغارة وعند الدخول شاهدت حشدا من العيون اللامعة وسمعت صوتاً يشبه الأبقار... نعم إنها هي... قطيع كبير التجأ إلى هذا المكان الآمن من تلك الليلة العاصفة لم يشعرني ذلك بالخوف بل العكس صعدنا إلى حافة مرتفعة عن قاع المكان المليء بالأبقار... لقد أصبحنا في مأمن الآن قلت لإخواني والتفت إلى سالم الذي أخذ معه الفانوس طوال تلك الرحلة لكن زحاجته قد تهشمت وتسرب كل ما فيه من زيت وتبين لي جلد هذا الصغير وصبره أما محمد فقد عصر ملابسه للتو ودخلت سلمى في نوبة نوم عميق بعد أن احست بالدفء وضعتها على الأرض وحاولت أن أوقد النار بالطريقة التي علمني إياها جدي وهي بضرب حجرين ببعض وتوجيه الشرار لكومة قش ومن ثم النفخ... وجدت حجرين مناسبين لكن من أين لي بقش يابس في هذه الظروف بحثت في أطراف المغارة فوجدت بقايا عش عصفور من الأغصان والقش فكان مثاليا لبدء تجربتي البدائية تلك... تحلق حولي الأخوان وأطلقت شرارات متتالية لكومة العش بينما تولى محمد مهمة النفخ وبعد عدة محاولات أوقدنا النار وجمعنا لها بقايا حطب وروث الأبقار من جنبات المغارة.

خلدنا للنوم جنب ذلك الموقد ولم أشعر إلا بسلمى تبكي جزعة أفقت وأخذتها في حضني وكان النهار قد طلع وأفاق الاثنان لقد انقشعت السحب واختفى الريح فأخذتهم وعدنا إلى القرية وفي الطريق تصايح الناس واستبشروا بوجودنا فقد كانوا يبحثون عنَّا طوال الليل.. علمت من عمي لاحقاً أن أمي التي حملت جدتي المقعدة في تلك الليلة وصاحت بنا اتبعوني ولم نتبعها.... أن الطوفان قد التهمهما ولحقتا بأبي الذي توفاه الله قبل بضعة أشهر.

.................

القصة مستوحاة من حادثة حقيقية وقعت في جبال ظفار في القرن الماضي.