سياسات التشغيل الوطنية

 

ناصر الحضرمي

تطرَّقتُ في مقالٍ سابقٍ بعنوان "كورونا وأسواق العمل: تحديات وفرص"، إلى التحذيرات التي أطلقتها منظمة العمل الدولية حول فقدان الملايين من العمال في العالم لوظائفهم، بسبب تأثير الجائحة على الاقتصادات وأسواق العمل؛ من حيث تباطؤ النمو وضعف الإنتاج، وإلى وجود العديد من التحديات؛ التي من بينها: إعادة هيكلة أسواق العمل، وكيفية تنظيم علاقات العمل من الجانبين القانوني والإجرائي في ظل وجود أنماط عمل مستجدة.

لذلك؛ أصبح ضروريًّا وجود سياسة وطنية تكون بمثابة رؤية وخطة عملية شاملة لتحقيق أهداف التشغيل، تشترك فيها جميع الجهات المعنية (الوزارات، والوحدات المعنية بالاقتصاد، المال، الاستثمار، التجارة، التخطيط، التعليم، التدريب، منظمات أصحاب الأعمال، والعمال، والمجتمع المدني...إلخ) بحيث تكون الرؤية واضحة فيما يتعلق بالتحديات والفرص المتاحة لسوق العمل، وأن يتمَّ التشاور فيها على نطاق واسع، بما في ذلك سياسات الاستقدام، من خلال الوقوف الفعلي على احتياجات القطاعات الاقتصادية لهذا الكم من العمالة، وترشيدها إلى أقصى حد، وتفعيل العمل بمنظومة واضحة للمؤهلات والمعايير المهنية، بحيث تكون الرؤية قادرة على توفير معلومات عن المتغيرات في المدى المتوسط والبعيد في سوق العمل، من حيث ظروفه، واتجاهات العرض والطلب، والقطاعات الاقتصادية التي من المتوقع أن تشهد نموًّا في المستقبل، والفرص الوظيفية الناشئة عنها. بمعنى آخر، ستكون الرؤية بمثابة بنك لمعلومات سوق العمل، وإدارته بطريقة منهجية تقدم لجميع القطاعات ذات العلاقة: الحكومة وأصحاب العمل والعمال، الفرص والتحديات المستقبلية المتصلة بسوق العمل، كمًّا وكيفًا؛ وبالتالي تُمكّن الدولة من رسم السياسات التعليمية والتدريبية بشكل أكثر ارتباطا بسوق العمل، وتمنح المواطن الذي لا يزال في مراحل التعليم فرصة تحديد طبيعة التخصصات المستقبلية التي سيتوجه إليها، أكاديمية كانت أم مهنية، كما ستقدم الدعم لمن هو على رأس عمله، ويرغب في تغيير أو تطوير مهاراته لتتواكب مع الوظائف المستقبلية، من خلال اقتراح برامج تدريب فعالة. كما ستُمكن الرؤية صاحب العمل من تحديد القوى العاملة المستقبلية في نشاطه التجاري. ومن أجل صياغة مثل هذه الرؤية وضعت منظمة العمل الدولية نهجاً، أو إطاراً شاملاً، لإعداد سياسات التشغيل الوطنية من خلال "اتفاقية سياسة العمالة"، 1964 (رقم 122)، و"برنامج التشغيل العالمي" للعام 2003، وتنفيذ "برنامج التشغيل العالمي: إستراتيجيات التشغيل في دعم العمل اللائق" 2006م، وإعلان منظمة العمل الدولية لعام 2008 بشأن العدالة الاجتماعية من أجل عولمة عادلة، و"الميثاق العالمي لتوفير فرص العمل" للعام 2009، والقرار الخاص بالتشغيل للعام 2010.

... إنَّ عدم وجود رؤية متكاملة تشترك فيها جميع مؤسسات الدولة المعنية بسوق العمل والاقتصاد، سبب رئيس في عدم قدرة وزارات العمل لوحدها على تمكين المواطنين وإصلاح حالهم في سوق العمل. فالأخير مرتبط بشكل رئيسي بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لذلك فإن حل إشكالية البطالة على سبيل المثال بحاجة إلى مشروع وطني تتشارك فيه أكثر من جهة، ولكلٍ منها مسؤولياتها التي تتكامل مع مسؤوليات الجهات الأخرى، على أن يكون أطراف الإنتاج عنصراً أساسياً فيه. ويجدر بنا ذكر مثال آخر يؤكد على أهمية وجود سياسة تشغيل وطنية متفق عليها، وهو عدم توافق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، والذي يعد أحد التحديات الرئيسية في مشكلة الباحثين عن عمل، واستقرار العامل في سوق العمل في حال قبوله. ويمكن ملاحظة كيف أدى الاتجاه نحو التعليم الجامعي الأكاديمي إلى إيجاد أعداد عالية من حملة الشهادات الجامعية، والدرجات العلمية العليا، دون أن يكون سوق العمل بحاجة إلى هذا الكم الكبير، في حين كان من الأولى التركيز على المهارات المطلوبة لسوق العمل. ففي ألمانيا مثلاً، وهي إحدى أكبر الدول الصناعية في الاتحاد الأوروبي، لا تتجاوز نسبة الملتحقين بالتعليم الجامعي الـ30% من إجمالي الطلاب، أي أن الـ70% المتبقية تتجه إلى التعليم الفني والمهني.

على أية حال، ومهما كانت نتائج الأزمة سلبية ومأساوية، إلا أنَّ هناك جوانبَ إيجابيةً توقظنا من غفلتنا، ويمكن الاستفادة منها في توليد نماذج عمل جديدة، وخلق فرص عمل جديدة يكون فيها استخدام التكنولوجيا ووسائل التقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي طابعًا أساسيًّا يساعد في تمكين المواطن للعمل في القطاع الخاص، كما يُسهم في وجود العمل المرن، واستقطاب أصحاب المهارات والمواهب، مما سيتواكب مع الثورات الصناعية المتتالية والتنافسية العالمية لأسواق العمل، وكل ذلك لا يتأتى إلا بوجود سياسة ورؤية وطنية للتشغيل واضحة المعالم والأهداف.

تعليق عبر الفيس بوك