لحظة وطنية فارقة في توقيتها السياسي

 

د. عبدالله باحجاج

توصيف اللحظة الوطنية بالفارقة، يعني أنَّه ينبغي استغلالها فوراً وبالدافعة السياسية، والميزة فيها- أي اللحظة الفارقة- أنها تتزامن مع عهد سياسي جديد مُنشغل بالمستقبل، وبالتالي من المؤكد أنَّ هذه اللحظة ستضفي على انشغالاتنا الوطنية الجديدة الكثير من المزايا والآفاق التي ترسخ رؤانا المستقبلية، لأنها ستُساعد على صناعة التطوير والتغيير معاً من خلال انكشافات اللحظة، وأية دولة لا تستفيد من هذه اللحظة فلم تدرك التغيير أو التطوير الذي يحصنها من الأزمات المستقبلية.

لذلك، سميناها باللحظة الفارقة التي إن ذهبت لن تدرك، ففيها- أي اللحظة الفارقة- تتوافر كل عوامل نجاح صناعة التغيير/ التطوير، ليس مهماً هنا التوقف عند المسميات: التغيير/ التطور/ الإصلاح؛ رغم اختلاف مضامينها، لكن الأهم هنا، أنَّ هذه اللحظة تفرض نفسها على الفكر السياسي العُماني المعاصر وهو الآن أكثر المعنيين بها، لأنه يعيش هاجس المُستقبل من خلال إعادة ترتيب الحاضر.

وإدراك الوعي السياسي بأننا في لحظة تاريخية فارقة، وأنه ينبغي أن تشبع استقراء وتحليلاً واستنباطاً بواسطة مجموعة خبراء دون أن يكون بينهم خبراء مال، هي مسألة حتمية للوصول إلى نتائج تساهم في تأسيس مرحلتنا الوطنية الجديدة، فمن المؤكد أن نتائجها ستصوب مسارات جديدة، وستعدل أخرى قديمة، لذلك فهي لحظة فارقة، وجاءت في التوقيت السياسي المُناسب.

والمتأمل في المعطيات الجديدة التي تنتجها هذه اللحظة الفارقة، سيلاحظ وبسهولة، بروز عناصر جديدة طاغية على منظومة الأمن الوطني ليس حصريًا لبلادنا، وإنما لكل دول العالم، وبلادنا جزء منها، وهذا يعني انتصارا لنظرية الأمن الوطني الأوسع على النظرية التي تحصر الأولوية على الثلاثية الأمنية المتلازمة وهي الحروب والإرهاب والهجمات الإلكترونية، ففي هذه اللحظة أصبحت الأقنعة والقفازات وأجهزة التنفس الصناعي من مقتضيات الأمن الوطني، وعلت فوق السطح قضايا عديدة مثل الأمن الصحي والأمن الإنساني، وتزامن معهما بروز هاجس الأمن الغذائي وأمن المواطنين...إلخ.

وحتى الآن لا يزال "أمن المواطنين" يرتفع منحناه بصورة لافتة، فهناك الكثير ممن سُرحوا من أعمالهم، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة متوقفة، وأصحاب الأعمال الحرة، كأصحاب سيارات الأجرة (التاكسي) دون عمل، وتوقفت مشاريع الأسر المنتجة، مما يعني أن هناك شرائح اجتماعية تعاني من الآلام لفقدانها دخلها الوحيد أو المُعزز لراتبها التقاعدي المحدود أو الاجتماعي الضعيف.. إلخ.

وهذه ليست حالة عمانية، وإنما هي عالمية، وهذا كله يحدث في وقت تقوقعت الدول الكبرى في الأنانية والانعزالية والعنصرية والانغلاق داخل حدودها خشية على مواطنيها، وقد تعرضت دول الخليج في البداية للابتزاز من الدول المصنعة للمستلزمات والأدوات الطبية، وعانت من تنصلات أخلاقية بسبب الجشع والطمع، كما لجأت دول كبرى إلى قرصنة سفن لدول محملة مستلزمات طبية كالكمامات.. وهذا سيدفع بكل دول العالم إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الأمن الوطني الأوسع.

وهذا يعني أنَّ مفهوم الأمن الوطني قد أصبح متغيرا ومتعددا من حيث سلم أولوياته، وهذا- نكرر- انتصار لنظرية توسيع وتعميق مفهوم الأمن الوطني، صحيح أن بلادنا تتبنى المفهوم الأوسع، لكن القناعات الجديدة، تستلزم أن يكون من منظور الهرم المقلوب وليس المعتدل، بمعنى أن دراسة مفهوم الأمن الوطني لم تعد راسيا وإنما أفقيا، فقد أصحبت الآن تتزاحم مجموعة تحديات كبيرة، تشكل مهددات أمنية لها قوة التهديدات التي تكون لها الأولوية المالية.

فمثلاً، من الأهمية الآن تصنيف منظومة الأمن الوطني الجديدة، كالأمن الصحي وأمن المواطنين والأمن الغذائي والأمن السكاني.. ضمن المخاطر التي لها أولوية تتزاحم مع أولويات الأمن الوطني التقليدية، وهذا التصنيف سيُعطي لهذه القطاعات الأولوية في الدراسة وفي تخصيص موارد مالية جديدة لها، وبالتالي، لن تكون قضايا مثل البطالة وإحالة الموظفين للتقاعد الإجباري والتسريح وعدم جاهزية المحافظات لمختلف الأزمات، وكذلك إنتاج مواد ومستلزمات طبية وتأمين غذائنا من أراضينا الزراعية... إلخ حكرا على السياسة المالية والاقتصادية، بل سيكون الطابع الأمني موجها لهذه السياسة، ويصبح شغلها الشاغل التنفيذ المحكوم بالرقابة والمساءلة المستقلة.

ففي المرحلة الماضية تمَّ رفع مجموعة شعارات عرتها أزمة كورونا، بحيث أظهرت الآن الحاجة القصوى إلى بنية تحتية تكنولوجية متكاملة تشمل كل محافظات البلاد، وكذلك انكشفت سلبيات الحكومة الإلكترونية، وظهر لنا المشهد أن العالم قد دشن الحكومة الذكية، بينما لا تزال هناك خطوات كبيرة للوصول للحكومة الإلكترونية.

وفيها- أي اللحظة- ظهرت المفارقات، ففجأة أصبح المطلوب من الطلبة الجامعيين وطلاب تعليم الدبلوم وحتى طلاب المرحلة الابتدائية، التعلم عن بعد، والكثير منهم لم يسبق له استعمال الحاسوب، والكثير من المناطق لم تدخلها خدمة الإنترنت أو أن الخدمة ضعيفة أو أن سعرها فوق طاقات الأسر المالية.. والمضحك كذلك، مطالبة المدارس الخاصة طلاب الصف الثالث والرابع الابتدائي بالتعلم عن بعد.. إلخ ومن كبرى الانكشافات كذلك، جاهزية موانئنا للاستيراد مباشرة لتأمين سلة غذائنا بعد أن كانت موانئ إقليمية وصية على أمننا الغذائي بحجة عدم جاهزية موانئنا، فكيف أصبحت جاهزة فجأة؟ لذلك فهي لحظة فارقة وتاريخية، والرجوع إلى مرحلة ما قبلها أو تجاوزها، سيعني أننا لم نستفد من هذه اللحظة الفارقة.

لذلك.. لابد من إعمال العقل والعلم والتعليم والبحث العلمي والصحة والفكر المبدع والتنمية التي تستهدف الإنسان، وكذلك إنتاج الضروريات محلياً لمنظومات أمننا الوطني الأوسع، وبالذات في المستلزمات الطبية والغذاء.. وكل هذا في المتناول، وتنتج الوعي به اللحظة الفارقة، وكذلك، تنضجه سياسيا، ومعها قد تفتح لها الكثير من مبادرات التطوير والتغيير مثل، تطوير اللجنة العليا للتخطيط، أو إقامة مركز وطني أعلى للفكر الاستراتيجي، أو تكون الحاجة الملحة إلى مجلس يضم كفاءات فكرية وتخصصية ومن مختلف التخصصات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية لدراسة علاقة التنمية بالأمن الوطني الأوسع في حاضره ومستقبله عوضاً عن أن يكون مجلسا بثقافة أمنية خالصة ومجردة، هذا المجلس/ المركز، سيوجه السياسة الداخلية لمواجهة مختلف المخاطر وتحضير البلاد لمواجهة مختلف الأزمات والكوارث قبل أوانها.

ولا نتصور أن خارطة التهديدات المستقبلية ستكون عسكرية، وإن كان هذا لا ينبغي إسقاطه وفق نظرية أسوأ الاحتمالات، وإنما سيكون الغالب أزمات صحية واجتماعية وسكانية وبيئية وأنواء مناخية.. لذلك من الأهمية السياسية توسيع وتعميق مفهوم الأمن الوطني الأوسع، فقد أصبح العالم الآن مسلما بالتعايش مع حرب الفيروسات، وقد بدأت على ما يبدو تنافسنا على كوكب الأرض، فكيف نواجه مثل هذه الحروب؟ طبعاً بالمختبرات والعلماء وتغليب الإنتاج الداخلي للضروريات في المجالات المشار إليها سابقا، والدخول مع كبار التجار خاصة والقطاع الخاص عامة في عقد وطني، لكي يكونوا شركاء في تحقيق أجندة المفهوم الأوسع للأمن الوطني.