د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
www.omaninvestgateway.com
سُمِّيت عُمان قديمًا باسم مجان لما عرفت به من ثروة معدنية.. ويُعتبر قطاع التعدين أحد القطاعات التقليدية في السلطنة مع قطاعات الزراعة والأسماك والتجارة. إلا أنه وبسبب ظهور النفط وتحوُّل السلطنة لاقتصاد ريعي بامتياز، أدى الأمر لانحسار دور هذه القطاعات التقليدية بشكل كبير، وهذا ليس حصرا على عمان؛ فقد عانت جميع الدول النفطية من ذلك. وتشير وكالة Austrade الاسترالية إلى أنَّ السلطنة ثاني أكبر دول المنطقة في احتياطات المعادن، لكنها غير مستغلة بسبب تفضيل القطاع الننفطي، وعدم وجود إطار إدارة وحوكمة واضح وشفاف، يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية.
وعلى الرَّغم من الاهتمام الكبير الذي أولته الحكومة بملف التنويع الاقتصادي والحديث بآمال كبيرة حول إمكانيات هذا القطاع، وما يحمله من فرص وتضمينه ضمن القطاعات الإستراتيجية في الخطط الخمسية المتعاقبة، وفي برنامج "تنفيذ" لتعزيز التنويع الاقتصادي. إلا أنَّ النجاحات محدودة للغاية لمساهمة قطاع التعدين في التنمية الاقتصادية؛ حيث شهد القطاع نموًّا حقيقيًّا سالبًا نسبته 3.5% في العام 2018م ليسجل مُساهمة مُتواضعة للغاية في الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز نصف% خلال الأعوام (2016-2018)، وعلى جانب الإيرادات العامه المتحققة من هذا القطاع ورفد الميزانية العامة؛ فقد تم تقدير حجم الإيرادات عام 2017م بنحو 25 مليون ريال عماني؛ منها: 14 مليون ريال حقوق امتياز، و8.6 مليون ريال ضرائب على الصادرات. وفي مجال خلق فرص العمل تشير البيانات إلى أن قطاع التعدين وفر نحو 5700 فرصة عمل، حصة العمانيين لا تتجاوز 20%. وكذلك مساهمته متواضعة في إجمالي الصادرات العمانية، وتوفير المدخلات للصناعات المحلية. الأرقام المتواضعة متوفرة لدى المعنيين بالقطاع وفي الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن المركز الوطني للمعلومات والإحصاء.
ما يهمُّنا هو أننا جميعا نتشارك الرأي في أن قطاع التعدين معول عليه الكثير في المرحله المقبلة، ولاحظنا كيف تمَّ تناوله باهتمام كبير من قبل أفراد المجتمع أثناء زياراتنا لمحافظات السلطنة في طور إعداد رؤية عمان 2040؛ وذلك في جميع المحافظات دون استثناء؛ كون جميعها تزخر بأنواع المعادن المختلفة. والمجتمع العُماني مُدرك تماما لأن هذا القطاع يُعتبر أكثر القطاعات تشوُّها ويفتقد للحوكمة الفاعلة والعادلة، وأن استغلال وتوزيع المحاجر يخضع لمعايير المحسوبية والقبلية والقرب من متخذ القرار. وعلاوة على ذلك، فقد استفادت شركات التعدين من العديد من الثغرات القانونية لتحقيق مكاسب تجارية على حساب الإيرادات الحكومية والمنفعة العامة وعملية تطوير هذا القطاع الحيوي. ومن الأمثلة على السلوكيات غير القانونية في أنشطة هذا القطاع: عمليات بيع التراخيص أو تأجيرها من الباطن لطرف ثالث، وتجنُّب الإبلاغ عن الإيرادات الفعلية التي لا يتم توثيقها عادة من الجهات الرسمية...وغيرها من الممارسات.
ونتفق جميعا على أنَّ السلطنة تزخر بالعديد من المعادن الفلزية واللافلزية؛ مثل: النحاس، والكروم، والرخام، والحجر الجيري، والسليكا، والجبس والدلومايت...وغيرها، وهناك طلب عالمي عليها. ونتفق كذلك على أننا في ظل عالم متسارع التغيُّر يفرض ايقاعا مختلفا ويتطلب مقاربة تنموية جديدة في المرحلة المقبلة التعدين أبرز أسلحتها. ومن وجهة نظري، من الصعب في ظل المعطيات والإطار العام الحالي القائم على الحكومة أن يحقق الطموحات والمأمول لتنويع الاقتصاد ورفد الميزانية العامة، ويوفر فرص عمل، خاصة لأبناء المحافظات والولايات التي تزخر بالموارد التعدينية. إننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى لعمل نقلة نوعية كبيرة في الإطار العام لإدارة هذا القطاع، والذي يفسح المجال للقطاع الخاص وشركات الاستكشاف العالمية، ويعالج القضايا التنظيمية والقانونية والضريبية والتراخيص التعدينية والتنقيبية والتصاريح البيئية...وغيرها؛ ويضمن حقوق المستثمرين والشركات الدولية، والتي هي الأداة الأهم للغوص في أغوار الجيولوجيا العمانية واستخراج كنوزها. فالأرض العمانية بجبالها وسهولها وبحارها تحمل في باطنها الكثير. إلا أننا سنظل نتحدث عنه ونتفاخر به دون أن نستطيع تطويعه وتعظيم الاستفادة منه. وأنا شديد الإيمان بأنَّ نهوض القطاع مرهون بتغيير جذري للإطار العام المعمول به حاليا واستبداله بإطار جديد يحمل خطابا جديدا للمستثمر المحلي والأجنبي ويعيد للدولة ثرواتها، إطار يتماشى مع أنسب الممارسات الدولية في الدول التي حققت نجاحات مشهودة في هذا القطاع؛ مثل: أستراليا وكندا وجنوب إفريقيا، ونحتاج إلى الدخول في شراكات إستراتيجية معها ومع أكبر الشركات العالمية في مجال التعدين، والذي يجب أن نتواصل معها بمهنية ومعلومات وإطار يحفظ حقوقها واستثماراتها في هذا القطاع الذي يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين، ويحتاج خبرات ومهارات ومقاربات لا تملكها الحكومة وشركاتها المناط بها هذا القطاع.
وفي مطلع الحديث عن هذا القطاع، يجب التفرقة بين قطاع التعدين (الذي يتَّسم بدرجة مخاطرة عالية ومعلومات غير متوفرة حول المكامن وطبيعتها، ويحتاج أساليب وأدوات مختلفة)، وبين قطاع النفط والغاز (درجة مخاطرة أقل ومعلومات نسبيا متوفرة حول المكامن وطبيعتها، وأساليب وأدوات معروفة)؛ حيث إنَّ القطاعين وإن تشابها في الاستكشاف والاستخراج يحتاجان إلى استخدام أدوات مختلفة لضمان تحقيق النجاح المنشود. ففي المرحله الأولى يجب علينا في السلطنة التركيز على جانب جذب شركات الاستكشاف وفي مرحلة لاحقة جذب شركات الاستخلاص والاستغلال وصناعات الشق السفلي. والجدير بالإشارة أن جذب الشركات التعدينية الكبرى إلى السلطنة قد لا يكلف مبالغ مالية كبيرة على الحكومة، في حين يمكنها من الحصول على فوائد عديدة كنسبة من الأرباح تتراوح بين 30% و50% (رسوم امتياز وحصة من الإنتاج والضريبة)، إضافة إلى الحصول على المعلومات الجيولوجية التى توصلت إليها الشركات الاستكشافيه ونشر ثقافة التعدين المفقودة في السلطنة، وفتح آفاق لصناعات الشق السفلي المرتبطة بالمعادن المكتشفة. وتشير الإحصاءات في هذا الشأن إلى أنه بلغ الإنفاق العالمي حوالي 10 مليارات دولار لسنة 2018 على عمليات الاستكشاف للثروات المعدنية، لم تكن حصة سلطنة عمان من هذا الإنفاق إلا القدر اليسير إن لم يكن معدوماً. ومن المتوقع أن تصل نفقات الاستكشاف العالمية إلى 25 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2025، والذي نأمل أن تتخذ السلطنة الإجراءات المحفزة لاستقطاب جزء وحصة من هذه الاستثمارات، ولكن الأمر لن يحدث تلقائيا، ويجب تمهيد الأرضية لذلك. وفي نفس السياق، فقد تجاوز عدد الشركة العالمية العاملة والنشطة في عمليات الاستكشاف ما يزيد على 1800 شركة في العام 2018 فقط؛ حيث كان تنشط هذه الشركات في جميع أنحاء العالم بميزانية وإنفاق سنوي متوسط يقدر 5.2 مليون دولار لكل شركة توظف بشكل مباشر ما بين 50 إلى 100 موظف لكل شركة، والتي كانت حصة سلطنة عُمان منها هامشية، ولا تعكس طموح إمكانيات قطاع التعدين العماني.
وتكمُن المشكلة من وجهة نظري في اختفاء وغياب الفرص والمنتجات الاستثمارية لقطاع الثروة المعدنية العماني من شاشة رادار المستثمرين الدوليين، ويرجع ذلك لعدة عوامل؛ منها على سبيل الذكر لا الحصر: الافتقار للمعلومات الجيولوجية الرقمية المتاحة عبر الشبكة العنكبوتية، والتشريعات القانونية غير الجاذبة للاستثمار لشركات التعدين، والافتقار لبرنامج علاقات عامة وتسويقي علي المستوي العالمي للموارد والثروات المعدنية لشركات التعدين العالمية، وأخيرا وليس آخرا: تداخل الصلاحيات وتعدد المرجعيات بين المؤسسات الحكومية ذات الاختصاص وضبابية الإطار العام المنظم للقطاع.
والجدير بالإشارة أنَّ هناك تنافسا كبيرا على المستوى الإقليمي والعالمي في تنمية هذا القطاع، واجتذاب الشركات العالمية، ولقد أدركت المملكه العربية السعودية وجمهورية مصر العربية أهمية قطاع الثروة المعدنية منذ فترة زمنية، وعملت على تنويع مصادر الدخل القومي، وأعدت بنجاح "خطة وطنية إستراتيجية للتعدين" استطاعت من خلالها تحديث وتطوير القوانين والتشريعات المنظِّمة لقطاع الثروة المعدنية وسهولة الوصول للمعلومات الجيولوجية وتطبيق الممارسات والأنظمة والمعايير حسب الكود المعتمد عالميا ألا وهو الـ(JORC) الأسترالي. ولقد استطاعت أن تجذب العديد من الاستثمارات العالمية الناجحة لهذا القطاع الحيوي، فأين عُمان من هذا الحراك والتنافس.
... إنَّ أكثر ما نحتاجه اليوم وأكثر من أي وقت مضى إعادة انبثاق قطاعاتنا التقليدية، وعلى رأسها قطاع التعدين.. والذي سيُسهم حتمًا في علاج العديد من المعظلات الاقتصادية والتحول السلس إلى اقتصاد المحافظات والشركات المجتمعية ونهج اللامركزية الذي تنادي به الرؤيه "عمان 2040". والتحديات في هذا القطاع وغيره من القطاعات لا يحتاج إلى سلِّ السيوف والخطب الوطنية، ولكن يحتاج إلى جرَّة قلم لاتخاذ إجراءات عملية وتبني أفضل الممارسات، وحاليا نُعاني من بُطء كبير لا يتناسب مع ديناميكيات النموذج العالمي للأعمال؛ ولذلك الإسراع في إصدار القوانين واللوائح والتراخيص التعدينية والتنقيبية أمر لا مناص به.
إنَّ تسويق قطاع التعدين كغيره من القطاعات الإستراتيجية كمنتجات وفرص استثمارية للمستثمرين المحليين والدوليين يحتاج إعداد قوالب وحزم تحفيزية خاصة تعدُّ بمهنية عالية تشد انتباه المستثمرين وتجذبهم بتفاصيلها وإجابتها عن هواجسهم وضمان حقوقهم، خاصة ونحن في بيئة إقليمية وعالمية شديدة المنافسة.
التعدين ثروه وطنية تحتاج فكرا جديدا يمتلك المعرفة والشغف وقدرات وطنية قادرة على ربط نقاط قوة وفرص هذا القطاع والوصول إلى المستثمرين الذين يملكون القدرات المالية والفنية للاستثمار بهذا القطاع؛ بما يضمن تحقيق التوازن بين المصلحة الوطنية والمجتمعية ومصلحة الشركات الدولية وصون البيئة والمحافظة عليها.
وختاما.. لقد آن الأوان لتزيت مفاصل هذا القطاع؛ ليستطيع الانطلاق والعدو في سباق النهضة المتجددة كأحد أبرز اللاعبين في الميدان بعد جلوسه على "دكة الاحتياط" مع باقي قطاعاتنا التقليدية لخمسة عقود.
والله والوطن من وراء القصد...،