سالم المسالم ومنير المستنير وأبطال غيرهم

 

 

 

أنيس بن رضا بن قمر سلطان

قال الاستشاري: "في زمن المصاعب، ابدأ ميزانيتك من الصفر. افترض ما شئت من مداخيل وإن قَلَّت عما عهدته في السابق، وعادلها بأدنى المصاريف؛ حتى تُنهي العام المالي بأقل ضرر مادي".. المعنى الضِّمني لذلك طبعًا هو التضحية بمئات أو آلاف من العاملين ((الغلبة للمؤسسة والبقاء للأقوى)).

جاء ردِّي مغايراً: "بل، أفترضُ المستحيل، وأبني قصوراً في السماء" - ثم سردت له قصة سالم المسالم.

سالم المسالم سائق شاحنة ثقيلة، وقد ثقلت عليه أعباء المعيشة.. لاحظَ ذات يوم الفرق بين سعر أصابع السمك المقرمشة التي تُحبها ابنته وبين سعر كيلو من أجود أسماك الساحل. الفرق شاسع، خصوصا وقد أوضَح له منير المستنير (مدير إنتاج في شركة نفط آنذاك) أن ما يقارب نصف ما في علبة أصابع السمك هو فُتات الخبز، ونوع السمك فيه لا يُقارن بما يمتاز به بحرنا.  مقارنةً "كيلو بكيلو" سعر أصابع السمك المُعَدة في أقصى البحار أغلى من أحسن سمك عماني بخمسة أضعاف.

وبعد خمس سنوات، يَفِيق سالم المسالم كلَّ فجر ويصلِّي مع زملائه: المهندس سامح الطامح، والمخطط ماهر الباهر، والوزير منير المستنير، في مدينة الأمدية للصناعات السمكية، ومعه العشرات من عمال المصانع، وآخرون ممَّن تغيَّرت حياتهم منذ شق الطريق لهذه المنطقة الميمونة.

بعد الصلاة، يأخذ بيد ابنتيه ويقودهما إلى المدرسة مشياً تحت الممرات المظللة، قبل أن يُباشر أسطول الشاحنات الذي أصبح تحت إمرته. المشوار لا يَبعُد عن مجمع المصانع سوى بضع دقائق. يرى في طريقه السفن العملاقة يوميًّا في طريقها لتوفير أطنان من أسماك، تم رصد تجمعها والموافقة على عمرها وفصائلها، وعلى موسم صيدها من قِبل مركز البحوث الغذائية والعلوم التطبيقية في جامعة شرق عُمان للعلوم البحرية. ولا يمرُّ يوم من غير أن يعجب سالم المسالم من المعجزة الاقتصادية التي تشهدها أعينه كل يوم.

أصبح الصيادون منظمين برواتب وحقوق وامتيازات وضوابط أمن وسلامة. وأصبح منهاجهم الذي لا يعرف الكلل والعمل قبل مباشرة الشمس مهامها رمزا لعمال المدينة. المعامل هنا بمفردها تنتج قرابة 3% من الناتج القومي في عامها الثالث من الإنتاج، ومعدل ساعات العمل المنتج للفرد الواحد 10 ساعات يوميًّا.

كانتْ أولى خطوات منير الوزير المستنير هي تدريب وتهيئة أعداد كبيرة من شباب وشابات المنطقة في مجالات التصنيع الغذائي وعلوم إحياء البحار والهندسة الكيميائية واللغات. عمل ذلك في خضم الأزمة الاقتصادية، وأقنع الجميع بأن التعليم والتدريب أفضل استثمار موجه للمصادر المحدودة.  كما ظهرت فئة جديدة من التجارة المحلية لتخدم قطع غيار السفن ومستلزماتها من مواد وخدمات، ناهيك عن إدراج سبع شركات مساهمة عامة تمتلك بعضها السفن وحقوق الصيد وأخرى مصانع الغذاء والصناعات التحويلية.

أما الجامعة، فقد وَهبت شرق عمان صيتا أبديا.  نشأت بمخطط كامل وقد مُنحت هكتارات كريمة بمحاذاة شواطئ الشرقية الأخَّاذة. أسهم في بنائها رجالات الدولة من التجار والمبارَكين على الأرض، جاء ذلك مناصفة بين كرم العطاء وإعفاء ضريبي لمدة 25 عاما. وتبعهم لفيف من رجال الخليج النافذين بعد أن سُميت بعض المنشآت بأسمائهم. كما شاركتهم بالمساهمات الفنية والأكاديمية جهات علمية عالمية بعد أن مُنحت مؤسسات في دولها حق المشاركة في رأس مال المنشآت الصناعية وحقوق انتفاع من البحوث، إضافة لمقاعد برسوم مخفضة لطلابها.

وفي قلب الجامعة، بُنِىَ مرسى صغير لبناء القوارب الشراعية والسفن الخشبية التقليدية مع مركز لبحوث الآثار والملاحة العمانية. وتمتدُّ من حوله قرية سياحية صغيرة تقتات من زحمة الطلاب من حين ومن رغبات الزوار في حين آخر. اكتظت الجامعة بالطلاب العرب والآسيويين وغيرهم من الغرب الذي يقضي فصلا أو أكثر للتعرف على نموذج فريد في العالم - علم حديث، مجتمع متفاهم، وجمال طبيعي منقطع النظير. أما السائح، فينهل من سكون البحر وظلال الجبل بعيدا عن وسوسة الأخبار. وفي النُّزُل يستفيد من منافسة الطبخ المحلي، ويستجم بعدها على ظهر مركب شراعي هامس، فيما يحيك له الرُّبان قصصَ وملاحم أساطيل الفرس والعثمانيين والبرتغاليين منذ مئات السنين. ويجتمع جميع الزوار كل ديسمبر؛ حيث يعلن مهرجان سباق السفن الشراعية أول احتفالات تخرج الطلاب. ويليه مهرجان السفن التاريخية و...و....

هذا ما حلمت به من جلسة واحدة مع الخيال واستشاري عُرِف بالواقعية. واتفقنا على أن الحلول الاقتصادية تحتاج معالجات جذرية وليست معادلات محاسبية.. لا يتم معالجة الاقتصاد كطفل عاق أو شركة خاسرة، بل كمجموعة من المتغيرات والافتراضات والتحديات، كلها تخدم حُلما يتحول واقعا بعد سنوات من العمل بمعدل 12 ساعة منتجة للفرد الواحد يوميًّا.

تعليق عبر الفيس بوك