خواطر "كورونية" مؤلمة

عبيدلي العبيدلي

 

تسابقت وسائل الإعلام -التقليدية منها والإلكترونية- في تناقل أخبار تفشِّي وباء كورونا المستجد، مُركِّزة على عدد الضحايا من البشر، بين المصابين منهم، وأولئك الذين تشافوا، دون إغفال لأرقام الضحايا الذين فتك بهم المرض وأودى بحياتهم.

وليس هناك من يشك في ضخامة حجم تلك الخسائر التي تكبدتها البشرية، وهي لا تزال في طريقها للتناسل والنمو، جراء تفشي هذا المرض الخبيث، وعجز الإنسان حتى يومنا هذا عن اكتشاف مضاد له يحدُّ من انتشاره، ويوقفه عن اختيار المزيد من الضحايا الجدد والاستمتاع بالفتك بهم.

توالُد النتائج الإنسانية، والاقتصادية، والاجتماعية المتوقعة لاحقا، الذي تمخَّض عن انتشار هذا الفيروس ضئيل الحجم، بدون قصد، ولا إصرار مسبق، ودون تمييز لجنس، أو نوع اجتماعي (جندر)، أو دولة، أَوْجَد الكثير من الخواطر التلقائية المباشرة وغير المباشرة في ذهن الإنسان، وهو يتلقَّى العلاج، أو يمضي فترة سجنه الاختياري بين جدران غرف الحجر الصحي، او حتى وهو يتابع أخبار تفشي ذلك الفيروس.

أولى هذه الأفكار: المقارنة المباشرة بين أرقام الضحايا البشرية التي كانت من صنع الإنسان نفسه، مقارنة بتلك التي نجمت عن تفشي الوباء، دون محاولة تجاوز هذه الأخيرة، أو التقليل من حجم أعداد ضحايا الفيروس، وتداعيات انتشاره.. لكنها حتى الآن لم تبلغ أربعة ملايين نسمة، نسبة عالية منها ستتماثل للشفاء.

مقابل ذلك حصدت الحربان العالميتان الأولى والثانية أرواح بشر تجاوزت أعدادهم عشرات الملايين. فوفقا لتقارير توصلت لها دراسات معاهد موثوقة: "كان العدد الكلي للإصابات والقتلى في صفوف العسكريين والمدنيين في الحرب العالمية الأولى أكثر من 37 مليون نسمة. مقسمة إلى ما يربو على 17 مليون حالة وفاة و20 مليون إصابة؛ مما يجعلها من أكثر الصراعات دموية بعد الحرب العالمية الثانية في تاريخ البشرية".

وفاقت الحرب الكونية الثانية نظيرتها الأولى؛ حيث تراوح عدد ضحاياها "بين 50 و80 مليون قتيل؛ مما يجعل الحرب العالمية الثانية أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ؛ بحسب إجمالي عدد القتلى وليس بنسبة القتلى من إجمالي عدد السكان". لكنَّ الأهم ما هي نسبة المدنيين في تلك الأرقام، حيث قدر عددهم بما "يتراوح ما بين 40 وحتى 52 مليون نسمة؛ 13 وحتى 20 مليون منهم لقوا حتفهم نتيجة أمراض أو مجاعات ذات علاقة مباشر بالحرب".

ما يُميز الخسائر البشرية الكورونية عن نظيرتها التي من صُنع البشر، أن الأولى لم تختر جنسًا دون آخر، وهو ما نلمسه عند الحديث عن الضحايا البشرية من صنع الإنسان، فقد قُدِّر ما تكبدته فيتنام خلال ثماني سنوات من الحرب التي شنها الأمريكيون على أراضيها، وفقا لبعض المصادر "بما يربو على مليون قتيل، وثلاثة ملايين جريح، وما يناهز 12 مليون لاجئ. (مقابل ذلك، كانت هناك خسائر في صفوف القوات الأمريكية بلغت 57 ألف قتيل، و153 ألف جريح و587 أسيرا بين مدني وعسكري، وقد تم إطلاق سراحهم لاحقا)".

أما الجرائم التي ارتُكبت لتأسيس الولايات المتحدة، فلم يتوقف الغزاة الأوروبيون للقارة الأمريكية عن شن حروب إبادة متتالية، راح ضحيتها -حسب المصادر الأوروبية ذاتها- "أكثر من 112 مليون إنسان ينتمون لأكثر من 400 أمة وشعب، تمَّ القضاء عليهم بأفظع عمليات الإبادة في التاريخ، وأبشع الأساليب والطرق الوحشية خلال مئة وخمسين عام من الزمان، حتى تناقص عددهم، فوصل إلى ربع مليون نسمة فقط حسب ما أُحصِي في العام 1900م".

وحتى يومنا هذا، لا يزال الصراع محتدما بين القادمين البيض والسكان الأصليين، فقد أفادت وكالات الأنباء العالمية بأن "مظاهرات صاخبة قام بها الهنُود الحُمر الأصليّون في أمريكا الشّمالية مؤخّراً ضدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وضدّ إنشاء مشروع أنبوب النفط الذي يمرّ تحت بحيرة (أوهيِ)، لأنّ هذا المشروع يُعرِّض كذلك مصادرَ المياه وإرثَهم الثقافي للخطر. وقالت إحدى الناشطات الاجتماعيات من الهنود الحُمر، كلاوديا وليامز التي جاءت من قبيلة (ياكاما) بواشنطن، لا نريد ما يُسمّى بالأفعى السّوداء (النفط) على أراضينا، مياهُنا هي حياتنا، وعلينا الحفاظ عليها، ليس فقط من أجل أنفسنا، بل من أجل مستقبل أطفالنا كذلك".

ثاني هذه الأفكار التي تراود الإنسان، وهو يحتمي من ذاك الفيروس: الأنانية التي سيطرت على سلوك الإنسان في سياق تصديه لذلك الفيروس؛ فقد طغت الأنانية المفرطة على ذلك السلوك فحتى عندما نتجاوز الاتهامات المتبادلة التي اكتظت بها قنوات وسائل الإعلام، لمسنا إصرار الدول، دون أي استثناء، على التفرد بمحاربة الفيروس في نطاق حدودها الجغرافية، ولم تعرف حملات محاربة الوباء حملات عالمية، او حتى إقليمية مشتركة من أجل هدف إنساني نبيل واحد، إلا فيما ندر وعلى نطاق ضيق لا يستحق الذكر. حتى الاتحاد الأوروبي، أو جامعة الدول العربية، غابت مشاريع مواجهتها الجماعية أمام تفشي وباء بثته جرثومة الأنا الإنسانية.

بل وجدنا الجهود تنصب على تبادل التهم، ومحاولات كل دولة تبرئة نفسها من مسؤولية تفشي ذلك الوباء؛ مما يثير في النفس الاشمئزاز من استمرار سيطرة "الأنا الفردية" على سلوك إنسان القرن الواحد والعشرين، إن جاز لنا القول.

ثالث هذه الأفكار، وهي تقترب من المثالية المشوبة بمسحة ساذجة، تناشد الإنسان بالحد من جشعه، والتوقف عن الفردية، والتحلي بروح المصلحة الجماعية التي تشذب النفس، وتدعو للعمل المشترك الباحث عن المصلحة العامة البعيدة عن الجشع الفردي، والنزعات الإنسانية. حينها سيكتشف الإنسان أنه لن يكون قادرا على مواجهة فيروسات من نوع كورونا فحسب، بل سيقطع دابر ما هو أقوى منها، وهي الأمراض التي تنبع من ذاته هو.

قائمة طويلة من الأفكار تعبر مخيلة ضحية كورونا المتشافى، تنشر الألم، لكنها لا تقتل الأمل، لا يشكل ما ورد أعلاه سوى قطعة جبل الجليد التي تطل برأسها من فوق سطح المياه.