عبدالنبي الشعلة *
* كاتب بحريني
أشرنا في وقفتنا الماضية إلى أنَّه ومنذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، شهد "محمد علي رود" أو شارع محمد علي، صولات وجولات التجار الكويتيين والخليجيين، وانطلاقهم فيه ومنه إلى باقي المدن والمراكز التجارية الهندية والموانئ الخليجية وبعض الموانئ الإفريقية، وظل وجودهم وحضورهم فيه قويًّا بارزًا نافذًا، إلى أن أخذ في الانحسار تدريجيًّا مع نهاية الخمسينيات أو بداية الستينيات، بعد أن بدأت ثمرات النفط الكويتي تتساقط بشكل ملموس على المجتمع الكويتي في بداية الخمسينيات؛ حيث كانت أول شحنة منه قد تم تصديرها في العام 1946، كما أن الكويت قد نالت استقلالها في العام 1961؛ فبدأت الطيور تعود لأوكارها للمساهمة في بناء الدولة المستقلة الفتية، ودعم اقتصادها، مُسلحين بالخبرة التي اكتسبوها في الهند وفي شارع محمد علي بالتحديد.
وقد وصلتُ إلى بومباي في النصف الثاني من العام 1969، وكنت أقيم في السكن الجامعي الذي يبعد أمتارًا عن "محمد علي رود"، ومنذ وصولي وخلال الأربع سنوات اللاحقة أصبحت أتجول يوميًّا في هذا الشارع العريق الذي ظل التاريخ يعبر من خلال أروقته وعلى أرصفته لأكثر من 250 عامًا منذ أن بناه الإنجليز في الأساس ليكون "شانزاليزيه" بومباي، محاطًا على جانبيه بمبانٍ تجارية وسكنية جميلة باهرة أخذت معاول السنين وأيادي الإهمال تمتد وتسطو عليها لتنال من رونقها وروعة تصاميمها المعمارية الهندسية الممتزجة بين التصاميم المغولية الهندية ذات الطابع الإسلامي، وتصاميم "طراز الديكو" الفرنسي، وفنَي المعمار الكلاسيكي والقوطي المُجدَدَين اللذَين زخرت بهما شوارع باريس وروما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ويقع شارع محمد علي في قلب مدينة مومباي العاصمة الاقتصادية للهند، في منطقة يقطن أغلبها سكان من الهنود المسلمين الذين بنوا حولها عددا من الجوامع والمساجد الكبيرة بتصاميم هندسية تضاهي تصاميم مبانيه؛ منها: مسجد المنارة، ومسجد زكريا...وغيرهما، وتتفرَّع منه العديد من الأزقة والطرقات؛ من أشهرها: "عبدالرحمن ستريت" الذي سمي باسم التاجر النجدي عبدالرحمن المنيع من بلدة "شقرا" الذي عرف بتجارته للخيول العربية الأصيلة.
وكأي إنسان خليجي، كنت أحس بالزهو وأنا أتجول في شارع محمد علي لأكتشف كل يوم المزيد من نفحات الماضي وبقايا تراث التجار الكويتيين والخليجيين، وما تبقى من مآثرهم وآثارهم، وقد كانت أنفاسهم وأصداء أصواتهم ورنين فناجين القهوة العربية التي كانوا يحتسونها لا تزال تتردد في مقاهي ومطاعم وزوايا ومتاجر ذلك الشارع.
وقبل أن أدخل في شارع محمد علي كنت أعبر سوق بومباي المركزي الذي بناه آرثر كروفورد أول رئيس بلدية للمدينة فسمي "كروفورد ماركت" لأرى أمامي مجمع "سيتارام" الشهير الذي يقع بالقرب من مكاتب الحاج محمد علي زينل علي رضا الذي كان عميد الجالية العربية في الهند، ومجمع "سيتارام" يتكون من عدد من العمارات التي كانت تضمُّ مكاتب تجار كويتيين وسعوديين، وقد كنت أزور المرحوم أحمد القاضي (أبو خالد) في مكتبه في هذا المجمع الذي كان يزاول منه التجارة تحت اسم "شركة حمد العلي القاضي".
كان شارع محمد علي أو "محمد علي رود" يعج بالحركة والصخب والضجيج على مدار الساعة، وكان يضم المتاجر والمكاتب القديمة للتجار الكويتيين والخليجيين الذين لم يبق منهم إلا القليل ممن لم يتمكنوا من تصفية أعمالهم أو التغلب على ارتباطاتهم الوثيقة بهذه المدينة. فمن البيوتات أو الأسماء أو العناوين الكويتية اللامعة لم يبق إلا نفر قليل؛ كان أبرزهم: بيت "العيسى" وعميده أبو فيصل؛ الحاج عيسى العيسى القناعي أو الجناعي، الذي عندما كنت في بومباي كان ما يزال يمارس التجارة منذ العام 1946 من مكتبه رقم 102 الواقع في وسط شارع محمد علي تحت الاسم التجاري "مكتب حسين بن عيسى وإخوانه".
وقد كان مكتبًا واسعًا على شكل قاعة كبيرة مستطيلة مفتوحة، يجلس في مقدمتها أبوفيصل على طاولته الخشبية القديمة، وأمامه عدد من الكراسي لجلوس زواره وضيوفه وزبائنه وعملائه، وقد أغلق نهاية القاعة التي كانت تستخدم في السابق كمضيف لإقامة زوار بومباي من عملاء الشركة من الكويتيين وغيرهم من الخليجيين.
كان أبوفيصل؛ عيسى الجناعي إنسانا وقورا رزينا ودودا، يحبه كل من يتعرف عليه ويتعامل معه، ورأيته كريم نفس سخيا يحب الخير، دمث الأخلاق والمعشر، ورجل أعمال صادقا أمينا يحترمه ويجله ويثق به الجميع، وينتمي لجماعة أو عائلة "القناعات" التي هي من أكثر الأسر الكويتية شهرة، وكان يعلق خلفه صورة كبيرة لوالده المثقف وأحد أعلام التنوير في الكويت العلامة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مؤسس مدرسة المباركية النظامية في الكويت في العام 1912م.
وأثناء إقامتي في بومباي، وبعد أن تعرَّفت عليه، كنت أحرص بين الحين والآخر على التردد على مكتبه ولقائه لتأدية واجب التحية والسلام، والاستفادة مما يدور ويقال في هذا المكتب القريب في روحه من الديوانيات الكويتية، ولتناول التمر والقهوة العربية والاستماع إلى توجيهاته ونصائحه وذكرياته، وإلى مساجلات ومساومات التجار الهنود الذين كانوا يتعاملون معه، وإلى حكايات وأحاديث التجار الكويتيين الذين كانوا يزورونه لإنجاز الصفقات التجارية، وإلى ردوده على المكالمات الهاتفية التي كانت ترده من الكويت، وإلى فحوى الرسائل التي تصله ويناقشها بشكل مفتوح مع مساعديه من الهنود، وكنت انبهر واستمتع عندما كنت اسمعه يتحدث الهندية بطلاقة وبلكنة كويتية جميلة.
في مكتب عيسى الجناعي، ومكتب أحمد القاضي، وفي المدرسة العربية، وفي شارع محمد علي ومقاهيه، كانت ذاكرة الناس، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ما زالت رطبة طرية مشبعة بصور وذكريات الماضي القريب، فسمعت الكثير من القصص الحقيقية، وسمعت عن الكثير من الأحداث التي كانت تقع في ذلك الشارع للتجار الخليجيين وبين بعضهم بعضا، كانت بعض القصص المتعلقة ببيع اللؤلؤ وتهريب الذهب أقرب بل أغرب من الخيال.
وسمعت أسماءً رنانة ظلت تتردد على ألسن الناس، والتقيت عددًا منها، أسماء عوائل وبيوتات تجارية خليجية معروفة كانت لها سمعة ومكانة مرموقة ساطعة في الساحات والميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على ضفتي البحر العربي؛ مثل: الإبراهيم، والقناعي، والشايع، والصقر، والعبدالرزاق، والمرزوق، والصانع، والساير، والغانم، والخرافي، والهارون، والمشاري، والمطيري، والثنيان، والشاهين، والفليج، والخالد، والحميضي، والجسار. ومن المملكة العربية السعودية وباقي الدول الخليجية عوائل: القاضي، والبسام، والقصيبي، وزينل، والفوزان، والفضل، والزياني، وفخرو، وكانو، والمناعي، ومطر، والعريض، والمديفع، والمدفع، والبستكي، والمنديل، ومصطفى بن عبداللطيف، ولوتاه، والنابودة، والماجد، وآل ثاني، والسلطان، والهجرس، وعشرات غيرهم لا تستطيع ذاكرتي الآن استرجاع أسمائهم بعد مرور نصف قرن على تلك الأيام.
ولا يزال مبنى القنصلية الكويتية في بومباي، الذي تم افتتاحه بعد استقلال الكويت، يضم قسما خاصا بـ"المدرسة العربية" التي أسَّستها دولة الكويت بأمر من أميرها المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عبدالله السالم الصباح؛ لتدريس اللغة العربية لأبناء السلك القنصلي العربي والجالية العربية في بومباي. وفي مساء كل يوم وحتى منتصف السبعينيات، كان هذا المكان يتحول إلى مركز يلتقي فيه من تبقى في بومباي من التجار الخليجيين والعرب لشرب القهوة وقراءة الصحف العربية وتبادل الأحاديث واسترجاع الذكريات الجميلة، إلا أنه مع كرِّ الأيام وفرها، وإقبال الليالي وإدبارها، أخذت ذاكرة هذا النفر القليل في الاضمحلال والضمور، وأعمارهم في التقدم زحفًا نحو القدر المحتوم، فصار عددُهم يتناقص يومًا بعد يوم إلى أن اختارهم الله واحدًا تلو الآخر إلى جواره الوارف الظل الكريم.
فرحمهم الله جميعًا، وشكرًا لمخرجِي ومنتجي ومنفذي مسلسل "محمد علي رود"، هذا العمل الفني الرائع الذي أحيا الذاكرة وأنعش الوجدان، ونتطلع لمزيد من مثل هذه الأعمال الفنية الهادفة.