نوافذ العزلة

 

د. سعيد بن سالم الحارثي

مهما اختلفت أسباب العزلة التي يرى إرنست همنغواي (1899-1961) بأنّها "وطنٌ للأرواح المتعبة"، إلا أنه لن يختلف العالم يوماً بشأن عزلة كوفيد-19 التي نزلت على أرض متعبة حد النخاع. بشر ممسكون بخناق الحياة كأنما تصَّعد أرواحهم إلى السماء. بشرٌ يبغون الفكاك مما هم عالقون فيه ثم لا يجدون إلى ذلك سبيلا. يناديهم مناد من السماء بأن الحال لا تعدو عن كونها في إطار: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

كأني أرى رجالاً يطلون من نوافذ بيوتهم، يعودون بالذاكرة المزدحمة إلى لحظات متداخلة بها معاركهم في زقاق الأسواق وفي الطرقات وبين المقاهي والملاهي والعروش التي كانوا يديرون منها حروبهم وأعمالهم لهثاً وراء زهرة الحياة الدنيا وزينتها. أراهم يتنفسون الصعداء وقد بدت بسماتهم مشرقة في بيوت إذن الله أن تَسكُن بهم بعد أن كانوا قد هجروها إلا من ساعات النوم. وعلى نفس النوافذ تقف فتيات جامحات كالحات قد اعتدن على تصنع السعادة في الأماكن العامة بين المقاهي ومحلات التسوق وصالونات التجميل. ونساء باسمات قد أثلج صدورهن الخلوة بأرباب بيوتهن وأبنائهن تحت سقف واحد بعد أن كان ذلك ليس من الحسبان في شيء. وأطفال أكثر سيطرة على الفراغ من آبائهم إذ يغوصون في بحر قواسمه مشتركة تجاه المزاج الطفولي الغض نحو الألعاب الإلكترونية التي تباشرهم بفيض ما تقدم. لا يجدون الوقت كآبائهم لأخذ نظرة من نافذة العزلة، فنوافذ الشاشات قد أكسبتهم العزلة قبل أن يتعرفوا عزلة المارق كوفيد التاسع عشر.

أرى في النافذة المقابلة رجلاً يعكف على تعليم أبنائه وتعويضهم بما هو أفضل، وأماً تحرص على أن يكون كل شيء نظيف ومعقم ولا تتنازل عن ذلك قيد أنملة. وفتاة تقرأ بنهم لتبحر في عالم من الروايات الشيقة، وشاباً يشحذ فكره ليقدم ابتكاراً ما. وما يثلج الصدر بين هذا وذاك، أنني أراهم وقد أصبحوا يدركون ما لم يدركونه من قبل بأنّ العالم، مع كل هذه العزلة، "ليس بتلك الضراوة كما يقول جمال حسين في مؤلفه كتاب الناس والعالم، ففي العالم استثناءات لم تتغير، فمثلاً لا يزال العشب أخضر، والسماء زرقاء إلى حد ما، ونرى بعض الطيور وأناساً يبتسمون، وفيه أمهات". إذاً، هل حان الوقت ليقنع أولئك القابعون خلف نوافذ العزلة بأن العالم لا يستحق كل ذلك الاحترام الذي كانوا يبدونه له.

أتدرون ما هي الحسنة الأعظم لأشهر كورونا التي سيخلدها التاريخ، إنّها ظاهرة تطاير الغبار سريعا عن أجمل ما نملكه وقد تدثر عنا، إنّها القيم الإنسانية السامية، ولعل أكثرها قرباً من واقع الحال هي قيمنا الاجتماعية التي كانت لا تنفك تضمحل كلما اتسع نطاق المدنية. بدءًا بفتور الوازع الديني عندنا، ومروراً باجتياح أجيال التكنولوجيا لمنظومة حياتنا اليومية، وانتهاء بغلبة المصالح الفرديّة على المصالح العامّة. ناهيك عن انعدام الوعي بجدوى القيم التي أتت بها الرسالة المحمدية لضبط نظام الحياة البشرية، فالأجيال التي لازمت منصات التواصل الاجتماعي الافتراضي هي في جهل جمّ بقيم التواصل الاجتماعي المادي الملوس، إلا من رحم ربي.

إن القيم الاجتماعية وإن تغشاها ما تغشاها، هي واسعة الآفاق، ورحبة برحابة مجتمع له معها صولات وجولات كمجتمعنا العماني. ولم تكن تلك القيم يوماً من الأيام مجرد ترفٍ تحتكره فئة دون أخرى بل هو مسؤولية مترابطة ترتكز على البعد الأخلاقي الذي تحتضنه الأسر العمانية وتتوارثه في أسمى أشكاله المعنوية والمتجسدة. وأقل ما يمكن أن يقال في زمن كورونا أننا ببساطة وجدنا بأن أيدي العطاء لا تنفك تتجاذب البساط من  كل طرف وبعزائم تتسابق لتصل به عنان السماء. وكان في مقدمتها اليد الطولى لجلالة السلطان هيثم بن طارق الذي دفع بـ 10 ملايين ريال عماني لبعث تلك الروح التي أيقظت منظومة العمل الاجتماعي من غفلتها.

وبالعودة إلى ما بدأت به، أكاد أجزم بأنّ للعزلة طعما أخذنا نستسيغه يوماً بعد يوم. هو حراك في دواخلنا نحو الحصول على استراحة نحن في أشد الحاجة إليها. وقد يجد الصواب طريقه نحو القول بأنّ عزلة أكثرنا ليست هلعاً من المرض بقدر ما هي محطة توقف للنظر إلى الحياة من زاوية أخرى غير تلك التي سئمت منها أرواحنا المتعبة. وإن لم نُظهر ذلك، أليس كذلك؟. والله لطيف بعباده وهو المستعان.

 

تعليق عبر الفيس بوك