العالم ما بعد "كورونا"

 

 

ميساء خميس راشد الشبلية

 

تعد جائحة (COVID-19) أكبر أزمة يتعرض لها العالم في القرن الواحد والعشرين من حيث الانتشار وحجم التأثير، فهذا الوباء لا يهدد صحة 7.8 مليار إنسان على وجه الأرض فقط، وإنما بات يهدد مختلف القطاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول العالم، بل بات يشكل تحديًا غير مسبوق لمؤسسات البحث العلمي للتوصل إلى علاج ناجح لهذا الفايروس كرونا – كوفيد 19. حتى اللحظة، الآثار الاقتصادية التي نجمت عن هذه الجائحة، تخطت تلك التي ضربت الاقتصاد العالمي خلال عامي 2008-2009.

قبل مائة عام، واجه العالم وباءً مشابهاً لجائحة (COVID-19) في أعراضه، كما في الإجراءات التي تم تطبيقها، كالتباعد الاجتماعي، وفرض حالة التجوال، ووقف الأعمال، وإغلاق الأسواق، وهو ما أصاب اقتصاد العالم بالشلل، وقد استمر الحال حينها نحو عامين. الضرر الاقتصادي الذي لحق بالدول، حينها، تمثل في ارتفاع الأجور، وفي والانخفاض النسبي للعمالة الصناعية، وفي انخفاض التصنيع، والأصول المصرفية، وارتفاع الرسوم المصرفية والإفلاس والتخلف عن سداد الديون. غير أن تلك العوارض الاقتصادية غير مؤكدة، بعد، من قبل المؤرخين الاقتصاديين، نظراً لتوافق فترة الوباء مع الحرب العالمية الأولى. أما اليوم، فإن الوضع الاقتصادي العالمي مختلف وصعب وأكثر تعقيداً عما كان عليه قبل قرن مضى، فقد أصبح الاقتصاد اليوم متكئاً على أسس العولمة القائمة على الهجرة، وعولمة رأس المال، وهو ما جعل جائحة (COVID-19) تشكل ما يشبه الكابوس للاقتصاد العالمي.

اتفق العديد من الباحثين على أن الأزمة الحالية ستغير النظام الدولي وتوازن القوى في العالم، وستؤذن بظهور نظام عالمي جديد تتراجع فيه قيم العولمة ومحركاتها العديدة، وفي المقابل، تقوي وتتعزز النظم السياسية ذات البنية الشمولية، والنزعة   الاشتراكية والقومية. منذ بداية انتشار الوباء تباينت استجابة الحكومات لإجراءات الطوارئ، وكيفية إدارتها للأزمة، فقد، أظهر الشرق استجابة أفضل من الغرب، الذي كانت استجابته بطيئة وصاحبها قدر من العشوائية. كان واضحاً للعالم ضعف الأنظمة الصحية الغربية وسوء الإدارة والتخبط في اتخاذ القرار.

جائحة (COVID-19) ستدفع كثيرا من دول العالم إلى التركيز أكثر على وضعها الداخلي أكثر من الخارجي، وعلى تبني سياسة الاكتفاء الذاتي في كافة القطاعات والصناعات المحلية، فقد كانت قطاعات النقل البحري والجوي بين الأكثر تضررا بهذه الجائحة، ما خلق صعوبات في عمليات الاستيراد، وزاد الضغط على الصناعات والموارد في ظل وجود الأزمة. على الصعيد الاجتماعي، يُؤثر الوباء على نظرة الحكومات حيال موضوع الهجرة، وقضايا العمالة المهاجرة، حيث وجدت بعض الدول نفسها إزاء أزمة وجود أعداد كبيرة من المهاجرين الذين يتكدسون في أحياء سكنية، ويشترك عدد كبير منهم في مساحات سكن ضيقة، بحيث تحولت هذه الأحياء إلى بؤر للوباء.. هذا الوضع شكل ضغطًا على الخدمات الصحية، وعلى الموازنات المالية المخصصة لتكاليف الفحوصات والعلاج.  يضاف إلى ذلك صعوبة السيطرة على سلوك المهاجرين، وسرعة استجابتهم  لإجراءات الحكومة في مكافحة الوباء، لاسيما أولئك الأميين والمهاجرين غير القانونيين. لذلك، ستعمل الحكومات على أن اتباع سياسات توطين الأعمال والوظائف عبر إحلال الكوادر الوطنية وترحيل العديد من العمالة المهاجرة، ووقف التجديد لأصحاب التأشيرات المؤقتة. ستلجأ الحكومات إلى فرض قيود أكثر على حركة الهجرة الشرعية، غير أن ذلك سيزيد من معدلات الهجرة غير الشرعية.

مؤخراً، قدم صندوق النقد الدولي نظرة متفائلة بأن تسلك الأزمة الاقتصادية والمالية منحى "V"، أي  انحدار حاد، يليه انتعاش سريع، بينما كان للعديد من الخبراء الاقتصاديين آراء مختلفة بأن الاقتصاد العالمي قد يتخذ منحى U أو L، وذلك بالنظر إلى  عدد من الحقائق، ومن بينها أن الاقتصاد الحالي لم يكن سليماً، إذْ عانت أغلب الحكومات مشاكل اقتصادية عولج بعضها بالاقتراض، وبعضها باتباع سياسات تقشف وترشيد في الإنفاق، ورغم ذلك، فإنَّ الأزمة الراهنة تجبر الحكومات على الاستمرار في الاقتراض لإنقاذ الأعمال والشركات، مما يتسبب في ارتفاع معدلات الدين العام بصورة كبيرة، كما أن العديد من الشركات الكبرى ستلجأ إلى مزيد من الاقتراض مما قد يتسبب بانكماش التجارة الدولية بشكل حاد، وتزيد بذلك مخاوف التخلف عن سداد الديون، وإفلاس العديد من الشركات والحكومات. تراجع إنفاق المستهلكين وإغلاق الاقتصادات الرئيسية في العالم لعدة أشهر على الأقل، يهدد الاقتصاد العالمي بالانكماش والركود، لاسيما أن الصناعات التحويلية حول العالم كانت تعاني من التراجع منذ العام  2019، وهنالك مؤشرات مبكرة حول فقدان العديد من الوظائف حول العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال ثلاثة أسابيع فقط، تسببت الجائحة في فقدان 17 مليون عامل وظائفهم. وفي الصين بلغ عدد العاطلين عن العمل خمسة ملايين عاطل بين شهري ديسمبر وفبراير. حتى في فترة ما بعد الوباء، فليس متوقعًا أن تعيد الشركات جميع العمال الذين تم تسريحهم، فورًا، بل إنَّ الأمر سيستغرق الشركات فترةً طويلة حتى تتعافى. وعلى ذات الحال، فإن العمال الذين خُفضّت أجورهم فليس من المتوقع أن تعود أجورهم إلى ما كانت عليه قبل التخفيض، بمجرد زوال الأزمة.

سيبدو أن تفكك التماسك الحكومي في بعض الدول ذات الاقتصاديات الهشة أمراً حتمياً، وسيلحق ذلك أضرار جسيمة بالنظام العالمي متعدد الأطراف.

يمكن للحكومات تخفيف أثر الأزمة بدايةً من خلال إعادة هيكلة وحدة الاستعداد للمواجهة الوبائية وتزويدها بمرافق مراقبة ومرافق طوارئ محسنة بشكل كبير، وقدرة احتياطية كبيرة، وتوجيه الاستثمارات نحو تعزيز البنية التحتية الصحية العامة، وتقديم الدعم الكافي لتعزيز إمكانيات منظمة الصحة العالمية بتقديم المعلومات المبكرة حول الأوبة، مما سيمنح الحكومات الوقت الكافي لإعداد وتوجيه الموارد لتدارك الأزمات مستقبلاً.

إن العمل على مُعالجة الركود الاقتصادي الذي تسببه جائحة (COVID-19)، يجب أن يتضمن تبني عدد من السياسات المالية، من بينها؛ التخفيضات الضريبية وترشيد الإنفاق الحكومي ووجود شبكة أمان وطنية شاملة لمنع الإفلاس والأضرار المالية طويلة الأجل. سيتوجب على الحكومات العمل على المراقبة الشمولية، وتمكين المواطنين، وخلق صناعات جديدة، وتعزيز إمكانيات الابتكار في خلق فرص عمل جديدة. أما فيما يخص شركات الطيران، فإنَّ على الحكومات إنقاذها من خلال التوجه نحن برامج خصخصة، فتراكم المصروفات في ظل توقف الرحلات التي تتحمل عبئها الحكومة سيزيد من أثر المأزق الاقتصادي للدولة.

ختاماً، يجب أن تكون الإجراءات المستقبلية المتخذة عالميًا في إعادة توزيع الثروة والسلطة إلى أسفل، وليس إلى أعلى، ولابد للحكومات من أن تسلك نهج التضامن العالمي ضد الأزمة الحالية، بعيداً عن الانقسام الذي يؤدي إلى خطر إطالة مدى الأزمة.

 

تعليق عبر الفيس بوك