الرأي الآخر في جدلية التقاعد الإجباري

 

د. عبدالله باحجاج

تسود المجتمع حالات من القلق والخوف والارتباك؛ القلق من أزمة كورونا، والخوف مما يروج له عن إحالة كل موظف أكمل 30 عامًا للتقاعد الإجباري، والكل يعلم أسباب هذا الخوف- وهو مبرر- ما عدا أولئك الذين قد حسبوا بشتى الحسابات المشروعة وغير المشروعة لهذا اليوم، وأمنوا لأنفسهم مصادر دخل عقارية أو تجارية أو سيولة مالية.. إلخ؛ وهم قلة، وهم الذين يغردون خارج السرب الاجتماعي، وينظرون للتقاعد الإجباري بمفاهيم صحية وبيولوجية من حيث العمر الزمني والعمر الوظيفي، فعوضا عن أن يكون 60 عاماً أنزلوه إلى 50 عاما.

وقفزوا فوق علة المشكلة، والتي تكمن في نظام تقاعد موظفي الخدمة المدنية ومزاياه المالية الضعيفة، وهو نظام لم يعد صالحا سياسيا للعمل به منذ أن أمر المؤسس الراحل- طيّب الله ثراه- عام 2010 بتوحيد مزايا الصناديق على غرار صندوق ديوان البلاط السلطاني، وهذا الأمر لن يحدث، لو لم يكن هناك تفهم سياسي عميق بحجم الاختلالات والتباينات الكبرى بين صناديق التقاعد في البلاد، والتي يظهر فيها صندوق تقاعد الخدمة المدنية ضحيتها الكبرى.

هنا الحد الفاصل الذي يجعلنا نختلف مع كل الطروحات التي تسوّق لهذا التقاعد رغم اختلافنا الكبير مع مبرراتهم الفسيولوجية والصحية التي تبدو مثيرة للسخرية أكثر منها موضوعية، لن ندخل في جدلية معها، ولا في تصويراتها للجيل الذي أسس النهضة، لأنّه يهمنا هنا إقناع الكل بمن فيهم أصحاب هذه الأقلام، والإقناع يمر عبر مآلات هذا التقاعد الإجباري بكل ما فيه من آلام اجتماعية، وكيف ينبغي أن يتقاعد الموظف نظير خدماته في الدولة خاصة والحديث هنا عن جيل بناة النهضة.

وهم يخشون من نظام تقاعدي، تداعياته لا تزال قائمة على من أحيلوا للتقاعد الإجباري عام 1996، وهذا ما دفع بالمؤسس الراحل- عليه الرحمة والغفران- إلى إصدار أمر توحيد منافع صناديق التقاعد في البلاد منذ 2010، وبالتالي، لا يمكن الاعتداد بهذا النظام لكي يشكل مرجعية لتقاعد الآلاف من الموظفين، وقد كان هناك تقصير واضح في عدم ترجمة الأمر حتى الآن، ولو ترجم، فكلنا على يقين بأنّ عددا كبيرا من موظفي الخدمة كانوا سيخرجون طواعية، وبالتالي، فإنّ مشهد خروجهم الآن قسرا، وبمرتبات وامتيازات فاقدة الشرعية المعيشية، لن يليق بهذا الجيل الذي أدى الأمانة بنزاهة ووطنية مشهودة.

وكل ما يتسرب من أخبار عن هذا التقاعد، يولد في سيكولوجيات هذا الجيل بأنهم سيكونون كبش الفداء، وبأن صلاحيتهم قد انتهت الآن، ويهمنا هنا محاولة إحباط فكرة "كبش الفداء" لأننا لا نستبعد نجاح المحسوبين على الفكر القديم من تمرير الفكرة في أي وقت، لكي يبعدوا أنفسهم عن تحمل المسؤولية الوطنية الآن، وذلك أسلوبهم طوال كل العقود الماضية، فتفكيرهم يكون في الحلول الجاهزة والبسيطة التي يدفع ثمنها المواطنون البسطاء حتى لا يتم الاقتراب من مصالحهم، وحتى  لا يطالبوا بالتضامن المالي مع الحكومة والمجتمع، رغم أنهم هم الأولى بهذا التضامن، لأنهم هم وراء كل الاختلالات الراهنة، وهم في الوقت نفسه المستفيدون منها.

كما نخشى من تمرير فكرة التقاعد الإجباري من أجل الجيل الجديد محل الجيل القديم، وتقودها- للأسف- مزاعم فكرية، صحيح تتوفر فيها النزاهة، وغير محسوبة على اللوبيات القديمة، وإن كانت على وفاق معها، لكن ذلك مبلغ علمهم، وكأنّ الوظائف أرقام مجردة خالية من أية اعتبارات اجتماعية، كلما احتجنا لفرص عمل، لجأنا للتقاعد، وكأن نصيب المجتمع من الثروات هذه القسمة المتوارثة، هذا مفهوم ستترتب عليه انعكاسات خطيرة على قيم الأمانة والنزاهة والوطنية عند الجيل الجديد، وما سيعمل بالجيل الجديد، سيشكل عبرة لهم.

ولو نجحوا في تمرير التقاعد بأي من الفكرتين، سنكون في حينها أمام لحظة فارقة في كبرى التحولات الناجمة عن الازمتين: كورنا والنفط.

من هنا يستوجب تصويب هذا الفكر، وبالتالي فإنّ التساؤل الذي ينبغي أن يطرح الآن يدور حول الفئات التي ينبغي أن تتضامن ماليا مع الحكومة والمجتمع، هل هو الموظف العام المعتمد على راتبه فقط؟ أم من كانت الدولة له ورقة رابحة طوال العقود الماضية، ومن كان يساهم ويصنع السياسات الاقتصادية والمالية وكان سببا في أوضاعنا الراهنة؟

من الأهمية طرح هذا التساؤل الآن، وذلك حتى تكون لدى صانع القرار رؤية واضحة بمآلات كل سياسة تتخذ في هذه اللحظة التاريخية، فلو توقفنا عند الموظف العام، فمن المؤكد أنّ تحميله الآن تبعات التضامن المالي- عن طريق التقاعد الإجباري- ستكون خطوة تقفز فوق واقعه وطموحاته، فطموحه أنّه في حالة انتظار طويلة لترقيته، وواقعه أنّ راتبه في ظل التزاماته الحياتية عبارة عن: ديون، أسرة، باحثين عن عمل، طلاب مدارس، مسرحين، ويكاد بصعوبة تجاوز كل شهر نصف الأول منه في الأيام الاعتيادية، ولنا تصور لو أحيل للتقاعد الآن؟ من المؤكد أنّ تصدعات أسرية ستحدث، وإشكاليات قضائية ستقع، وصور فقدان الأمن الاجتماعي ستظهر فوق السطح مثيرة وخطيرة.

أمّا لو توقفنا عند الفئة الأخرى المقابلة، وهي تضم قائمة كبيرة، تدخل في توصيف أطلقنا عليه في مقال آخر "الورقة الرابحة"، وهنا لا نحصر التوصيف في الشركات ولا التجار، بل كل من استفاد من عصر الدولة الرابحة، عندها سنجد القائمة طويلة وعريضة تتجاوز المفهوم الضيق الذي ينصرف إليه التوصيف، ويشمل أنصار التقاعد الإجباري ومروجيه.. وبالتالي، ينبغي أن يكونوا جميعا الآن الورقة الرابحة للوطن بعد ما كان الورقة الرابحة لهم.

لن نحدد القائمة حتى لا نضيق التوصيف، وليطرح كل فرد على نفسه التساؤل التالي: هل كانت الدولة لي ورقة رابحة في الثراء أو تأسيس الثروة؟ وكيف؟ ومن أين؟ عندها سنجد قائمة طويلة وعريضة معنية بالتضامن المالي، لأنّ ساعة التضامن المالي قد دقت، والتعبير عنها يستوجب أن يكون كرد الجميل للوطن، وإلا، فهل فما هو البديل؟ المواطن الوفي، وحتى لو تمت إحالة تقاعد الآلاف منهم- كما يسوقه البعض- ستظهر الفوارق الاجتماعية بصورة سافرة، وسنحقق الهدف الخفي الذي يسعى إليه صندوق النقد والبنك الدوليين من سياساتهم في عالمنا العربي، والخليجي على الخصوص، وهو القضاء على طبقة الأمان، وهي الطبقة الوسطى، عندها سنقول وداعا لدور هذه الطبقة التي تتشكل من أمثال هؤلاء الموظفين الذين لهم ما بين 30 سنة عمل في الدولة.

هل انتهت صلاحيتهم؟ من السذاجة والغباء التسليم بذلك، ومن المنظورين الوطني والاجتماعي لا يمكن إسقاط دورهم أبدا، فهم الفكر العقلاني المتزن الذي يضبط إيقاعات الأفكار الجديدة التي تقارن داخلها بالخارج بمعزل عن السياقات الدولة التاريخية والسياسية والاجتماعية، ولأنّها المستورة ماليا، فمن خلاله تتفرغ للدفاع عن ثوابت الدولة ورموزها ضد الخارج، وضد شطحات المتأثرين به، فكيف لو شكل عامل المال ضغوطات معيشية عليهم؟

وهنا ينبغي أن نتوجه برسالتين عاجلتين، الأولى، ضرورة ربط تقاعد الخدمة المدنية بمزايا تقاعد الديون، وفتح المجال لمن يرغب في التقاعد، وقد نجد العدد نفسه المستهدف وربما أكثر، وميزة هذا التوجه تكمن في احتواء هذا الجيل الذي لن ينكر دوره، ولا يقلل من مخاطر خروجه قسرًا وفق نظام تقاعدي لم يعد صالحًا سياسيًا ومعيشيًا، إلا من يفكر بحاسية النظر فقط.

فقرار التخلص من هذا الجيل قسرا سهل وممكن، وهو من أبسط القرارات، لكن انعكاساته أخطر على المجتمع والدولة، لذلك نرى أن الحل الذي يروج له نقلا عن تجربة عربية شقيقة، هو من قبيل استيراد الحلول التي لا تصلح للبيئة العمانية، والتي لن تنجح اجتماعيا كما لم ينجح 1996، والحل المستورد هو صالح لبيئته فقط، وربما يتمناه المستهدف لامتيازاته التي تكون لصالح الموظف على عكس غالبية الموظفين في بلادنا، الذين يتحولون إلى فقراء، وحتى لو لجأت البلاد إلى هذا الخيار، فكم ستوفر من سيولة؟ ضررها الاجتماعي أكبر من نفعها المالي.

الثانية، أن دروس كورونا حتى الآن، ينبغي أن ترفع الوعي السياسي عند كل الطبقات المقتدرة وبالذات الثرية، فأهم دروسها، تكشف بجلاء أهميّة الأوطان، وأهمية التصالح معها، وأهمية أن يكونوا أعضاء مندمجين داخل وطنهم، وأن تكون أوطانهم جاهزة لكل الاحتمالات، فكورنا قد فرض مبدأ المساواة في العلاج وفي الغذاء "الغني والمحدود الدخل والمعدوم".

فالكل يتعالج في مستشفى واحد، وبالرعاية ذاتها، ودون دواء متاح، قمة المساواة يحققها هذا الفيروس العجيب، فمثلا، لم تعد الثروات تنفع للسفر للخارج للعلاج بعد إغلاق الحدود، وانكفاء الدول داخل ذاتها، بل حتى الشعوب الأخرى يتم ترحليها إلى أوطانها، وحتى القصور والعقارات الأخرى والأموال خارج الأوطان هى مجمدة، ومهجورة في مهجرها، لن يستفيد منها أصحابها بعد إغلاق المصارف كذلك، وقد تؤمم كما يتم التلويح بها الآن من قبل بعض الدول الأوربية.

لذلك، تظل الأوطان الحصن الأمان للكل، والملاذ الأول والأخير للمواطنين، من هنا تنضج الأفكار وتتولد القناعات الجديدة، وتبرز العودة للدولة الوطنية القوية بمجتمعها الآمن في رزقه واقتصادها الحر من كل الاحتكارات الداخلية والخارجية وباسترجاع ثرواتها وأموالها ممن استغلوا مناصبهم، وبتضامن المقتدر مع الدولة والمجتمع.. فهل وصلت رسالتنا العاجلة؟ مهما يكن لا يزال الوقت مناسبا لها.