إشارات ومراجعات

 

د. صالح الفهدي

 

في خضمِّ الجائحة التي يمرُّ بها العالم، استحضرت في نفسي الآية الكريمة:"حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس/24، ومحلُّ تفكيري في الآية يقعُ في "وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا"، إذ أننا لسنا في مقامِ من يفسِّر معانيها، إنَّما من يقاربُها بالوقائعِ على الأرضِ، وما ينحو إليهِ الإنسانِ بدفعٍ من القوى الدولية والنُّخب المسيطرة فيه؛ تلك التي تملكُ موجِّهات الاقتصادِ والسياسةِ والقوة العسكرية والتقنيات الحديثة.

لقد وصل الجشعُ بالإنسانِ حداً جعله يحتقرُ الكائن البشري، فيرى قيمته فيما ينتجهُ من مال، فإن لم ينتج شيئاً لم يعد له قيمة، ولعلَّ ذلك ما دفع أحد المُشرِّعين الأمريكيين ويُدعى (تيري هولينغزورث) إلى اعتبار أنّ السماح بمقتل المزيد من الأمريكيين بفيروس كورونا، يعتبر "أهون" من ضرر الاقتصاد الناجم عن إجراءات العزل..! وقد يكونُ المقصدُ نفسه في ترك آلاف من دور المسنين في دولةٍ غربية دون حماية، وكأنَّما جاءت الجائحة مخلِّصاً للأعباءِ الاقتصادية التي تترتب على رعايةِ هؤلاءِ المسنُّين، وقد تكون أيضاً فكرة (مناعة القطيع) مما يفصحُ عن تلك المقاصدِ التي وصلَ إليها الفكر الضليلُ للإنسان في إعلائه للمال، واحتقاره للكائن البشري الذي استنزف طاقته، فانتهت صلاحيته في مفهوم هذا الفكر.

ويقفُ العالمُ اليومَ - أو هكذا نفترض- أمام المرآةِ لتتجلَّى لهُ أفعاله، فإما يرشدُ أو يستمرُّ في ضلاله، يقول الشيخ محمد رشيد رضا صاحبُ تفسير المنار: "وَلَوْ تَفَكَّرُوا: لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا، وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْن".

كشفت الجائحةُ عن مثالبَ ومعايبَ في تعامل البشرِ مع البشر على مستوى العلاقات الفردية وعلى مستوى العلاقات الدولية، وبرزت الأنانيات التي كان من صورها السطو على المؤن، والمعدات الطبية، والشحنات حتى أعادنا الأمر إلى القراصنة الذين يستولون على السفن في البحر في السنوات القريبة، حينها هاجت الدول العظمى بهؤلاءِ الحثالات من قطَّاع الطرق البحرية...!!

كم هو ضئيلٌ هذا الإنسان في قوَّتهِ، فماذا فعلت الترسانة العسكرية الضخمة للدول المتفوقة عسكرياً، وهي تقاتلُ جندياً خفيَّاً واهي الكيان لا يشاهد بالعيان..؟! لقد استدعى هذا التعاطي العاجز أو الضعيف مع الجائحة للسؤال "ماذا يعني 'الدفاع الوطني ' أثناء وباء؟" وهو سؤالٌ للكاتب البريطاني جورج مونبيوت برز كعنوان مقال بصحيفة الغارديان، ومما قال فيه: "نحن ندافع عن أنفسنا ضد التهديدات الخطأ. لعقود، كانت حكومات المملكة المتحدة تخوض ليس فقط آخر الحروب، ولكن فكرة حرب لا ضرورة لخوضها تُنفق فيها مئات المليارات لمواجهة مخاطر متخيلة. في الوقت نفسه، وكما أصبحنا على وعي بشكل مروّع خلال الأسابيع القليلة الماضية، فإنّهم تجاهلوا الأخطار الحقيقية والملحة"، ويضيف الكاتب متسائلا: "هل يمكن لـ "طائرات الشبح المتقدمة وإلكترونيات الطيران المدمجة والدعم اللوجستي الفائق هزيمة انهيار المناخ؟" هذا الأمرَ يعني أهمية إعلاءِ قيمة "الأمن الصحي" على "الأمن الدفاعي" لأنَّ الأولَ هو أبلغُ تأثيراً على الثاني.

إنّ ما ضربتهُ من أمثلةٍ حول ما كشفته الجائحة لفيروس كورونا المستجد إنّما هو نزرٌ من قليلٍ، تستدعي تغيير التوجُّهات التي جرت عليها الأُمم واعتنقت عقائدها، وسارت في ركابِ أفكارها، الأمر الذي يعني المراجعة، فالأُمم التي تركت وقعت في أخطاء قاتلة – حسب رأي أرنولد توينبي- ولم تتصدى لها بالحلول العقلانية، والعلاجات الجذرية، فتجاهلتها لعل الحل يأتيها من السماء، فإنّ هذه المشكلات ما تفتأ تتفاقم حتى تكون سبباً في فناءِ الأُمم وانهيارها..!

المراجعات الحصيفة، والنقد البنَّاء، والمبادرة إلى تصويب الاتجاهات، وتصحيح الأفكار، هي علاجاتٌ ناجعة تتولد عن الجائحة للأمم التي تريد لنفسها أن تبدأ مرحلةً من النمو والازدهار والاستمرار، أمّا غير ذلك فعلى هذه الأمم السلام.