الجابري والوحدة العربية في مواجهة "كورونا"

 

ياسمين البطاط

مُحمَّد عابد الجابري.. كاتب ومُفكِّر من المغرب العربي، قِراءتي الأولى كانت من كتابه "مسألة الهُوية"، والذي في الحقيقة بات كتابا مُقرَّبا جدًّا إلى قلبي. لا يُمكنني القول إنَّ الجابري يدهشك بأفكار جديدة لم تخطر على بال أحد من المفكرين من قبل، ولكن قدرته العجيبة على تفكيك القضايا والإشكاليات التي تُراودنا في الساحة الثقافية هو ما يجعلني أركض وراء جميع مؤلفاته.. كلُّ كتاب تقرأه للجابري سيكون بمثابة عين أخرى تتفتَّح لتفهم نفسك والآخر أكثر.

تجتاحُنا اليوم أزمة عالمية ووباء عالمي لا يُمكننا غض الطرف عنه، فتخرج الأخبار من كل حدب وصوب لتثير مشاعر القلق فينا تارة، ثم تبهجنا تارة أخرى بشفاء عدد من المرضى، وتستمر هذه الدوامة إلى أجل غير مسمى.

لن أحاول التحدث هنا عن "كورونا" بأي طريقة؛ لأنني أعتقد أننا تشبعنا من آلاف المقالات التي تُكتب وتُنشر يوميًّا حيال هذا الأمر، ولكن أحببت لفت النظر إلى أمر استوقفني منذ فترة وجيزة؛ ألا وهو مشروع الوحدة الذي تناوله الجابري في كتابه، وعلاقته بآلية تعامل العالم مع هذه الجائحة.

إنَّنا نشهد اليوم الموقف "الأبوي" من الدول العربية، وبالأخص الدول الخليجية، في التعامل مع الأزمة؛ حيث قدّمت الشعب من مواطنين ووافدين على النظام الساري للدولة والذي يحرك العجلة المادية فيها. ولا يُمكننا إنكار حقيقة أن العرب -وبالأخص الكويت وبعض الدول الأخرى- باتت تتصدر القائمة في التعامل مع الوباء؛ حيث قدمت كافة الخدمات الأساسية للأفراد داخل الدولة، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الخطوة بالنسبة للخط الاقتصادي داخل الدولة، فإننا نشهد "وحدة قومية" قوية بين الأفراد والدولة، وهذه الوحدة من ضمن المشروع النهضوي العربي، الذي كان بالنسبة لي ولكثير من العرب حلما بعيدا وأشبه بحلم رومانسي؛ قد أصبح واقعا -مؤقتا أو ثابتا- نعيشه اليوم في ظل الظروف الراهنة. إن وحدتنا القومية اليوم قائمة على أساس النزعة الإنسانية التي تطلب السلام والأمان قبل كل شيء، فتتَّحِد على الثقافة، اللغة، والتراث، وكأن القلب القومي العربي بات ينبض نبضا واحدا من جديد بعد عدة عقود، وهنا نستطيع استخدام عبارة "رُبّ ضارة نافعة"؛ لنرتاح قليلا من قلق المستقبل وخوف الحاضر. أختم هذا البند بنقطة جديرة بالذكر وهي أنَّ الوحدة العربية -إن اتَّحدوا كقومية أو كقوميات- فهي أكثر دوامًا من أي وحدة أخرى، وهذا نظرا لخلوها من ارتكازها على المصالح الاقتصادية.

وفي الجهة المقابلة، أو عندما ننتقل للحديث عن "الآخر" وهو بلا شك العالم الغربي والدول العظمى الرأسمالية، وأخص بالذكر هنا ألمانيا وبريطانيا، فإننا نشاهد وللمرة الأولى تفكك الوحدة الأوروبية التي كانت ولا تزال قائمة وبشدة على ركيزة أساسية واحدة وهي الركيزة الاقتصادية، فبمجرد انهيار الاقتصاد الدولي شيئا فشيئا بسبب الأوضاع الصعبة التي تعيشها الدولة، بتنا نرى السياسة الوحشية التي يتبعها الآخر في مواجهة الوباء، ولنخص بالذكر هنا "مناعة القطيع"، وأعتقد أن هذه السياسة ستكون أشبه باليانصيب أو المقامرة، إما أن تكون الرابحة في هذه الحرب، وإما أن تخسر عشرات الآلاف من البشر -شريحة كبيرة من المنتجين- لتزداد الأحوال سوءًا. في موضوعي المتواضع هذا، أردت الإشارة إلى متانة بناء الوحدة العربية -إن تحققت- نظرا لمرتكزاتها، وإلى ترهل الوحدة الأوروبية -حتى وإن تبيَّن لنا العكس- في مواجهة الأزمات. ولم أكن بصدد إطلاق حكم الأفضلية إلى أي من العالميْن: العربي أو الغربي، ولكن كان تفكيكا وطرحا للإشكالية التي تدور في عقلي منذ بدء الوباء بالتفشي. إن كان هناك ما يشفع لكل ما يحصل الآن فهو الوقت الذي حصلنا عليه لنفهم أنفسنا والآخر أكثر عن طريق القراءة المكثفة في كتب الجابري وغيره، هي فرصة ذهبية لنهدّئ من إيقاع الحياة قليلا، نتنفَّس بعُمق ونعيش كل لحظة صمت حتى ندرك بُعد الآفاق المليئة بالمعرفة والتي سنصل إليها فقط عن طريق القراءة والتفكر.

تعليق عبر الفيس بوك