علي بن سالم كفيتان
فَقَدتْ قريتي الهادئة في ريف ظفار هذا الأسبوع أحد أعمدتها، فَقد رَحل من لا تُفارق الابتسامة محياة، فهو المحدث الذي لا تمل حديثه، والراوي الثقة للأحداث التي عاصرها في أيام الضيق والرخاء، كان وحيدَ والديه؛ لذلك كان مُدلَّلا بمنطق ذلك الزمان، واستمرَّت رُوحه السمحة انعكاساً لعيشه الهادئ في كنف والده فالسنياح -رحمه الله- يَجِد مَا يطلب، ولم يعش ضنك الكثيرين في زمن الفقر والعازة؛ فكانت دار أبيه مرسى لكل عابر سبيل تهوي إليها كل كبد رطبة خذلتها الحياة.
سيفتقدُك مَسجد قريتنا الوادعة، وسنفتقد -نحن جيرانك- دبيب عصاك على الأرض عندما تذهب إلى الصلاة في كل الفروض رغم مرضك واعتلال جسدك.. ولن يكُون هناك معنى لجلسة العصر في سبلة قريتنا بعد رحيلك؛ فقد كنت تحكي لنا دون توقف، وتسرد لنا أحداثًا مرت عليها عشرات السنين كأنها وقائع تحدث أمامنا بالشخوص والأمكنة، وبمنتهى المصداقية، ولا ينبهنا من جلستنا الشيقة تلك إلا أذان المغرب أو احتياج أهلك إليك؛ فقد فقدنا برحيلك موسوعة من المعرفة الواسعة التي لم نعرف قيمتها إلا بعد ذهابك عنا، لقد حللت ضيفا على ربك، وحللت بالقرب من جارك وصديق عمرك ورفيق المعسكر (أبي)؛ فرحمة الله تغشاكما، ونستودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه.
وبالصدفة.. جاورتما أم الفقراء، وصوت الضعفاء، ومن تمتلك الحاسة السادسة للتعرف على المحتاجين، رحلت هي كذلك قبل بضعة أسابيع، وأناخت ركابها هناك إلى جواركما بعد عُمرٍ حافل بالعطاء والتضحية، يُحكى عن السيدة حرفيش الصيعرية أنها تذوي في فراشها كل ليلة ولا يأتيها النوم، فهاجسها يوحي لها كل ليلة بأنَّ هناك أسرة ضعيفة ومحتاجة للغذاء أو الكساء، وتسكن بعيدا، فتقوم من مرقدها وتربط نفسها جيداً، وتأخذ ما يتوافر في بيتها، وتهج في الظلام والمطر، سالكةً دروب الرحمة والعطاء، حتى تصل في الهزع الأخير من الليل، فتجد الأم والأطفال في كهفهم البعيد يئنون من الجوع، تسلم بنت محمد عليهم، وتوقد النار فيتحلق حولها الصغار حتى تنضج العصيدة، فتسكت في تلك الليلة الماطرة عوي بطون تلك الأسرة الجائعة، تأخذ نفسها على عجل، وتعود لتمر على عين الماء قبيل الفجر، فتملأ قربتها وتعود بسكينة وهدوء إلى بيتها، وهي تحمد الله على ما هيأ لها من خير في تلك الليلة، وفي اليوم التالي تسمع عن أناس يشيدون مزرعتهم الموسمية استعدادا للخريف، فتهب لنجدتهم، ولا تعود إلا قبيل المغرب، فترقد كل ليلة وهي غريرة العين بما تصنع لربها، هذه هي أم الفقراء ورفيقة الضعفاء التي ترقد اليوم بسلام بالقرب منكما، فرحم الله السيدة حرفيش بنت محمد الصيعرية، وأسكنها فسيح جنانه، ونعزي أنفسنا بفقدانها ونحن نتذكر كل مآثرها وأفضالها علينا.
قبل الختام نقول.. لقد كانوا رفقاءً في الحياة وفي الممات، لقد كابدوا الدنيا بكل فصولها، فكانوا يبكون خوفاً وخشوعاً ورحمةً، ولم ينسوا الآخرة فتركوا لها زرعها أعمالاً وليس أقوالاً، ولا يكاد أحد اليوم في هذه الأطراف القصية من الوطن ينكر صنيعهم الإنساني والإيماني العظيم.
رحم الله أبي، وسنياح، وحرفيش.. وكل الذين فارقونا قبلهم على العفة والطهارة، إننا بذكرهم نخلد صنيعاً إنسانياً عظيما لم تكتبه الكتب، ولم تتناوله الروايات.. إنهم جزء أصيل من هذا الوطن، عاشوا على الوفاء للناس والأرض، وماتوا على اليقين بالله.