د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
عميد كلية الشريعة بجامعة قطر سابقاً
وضحت سابقاً، كيف تعرضت العلمانية كمفهوم سياسي وافد إلى الفضاء الثقافي العربي. إلى تشويه وسوء فهم كبيرين، من أعدائها الطبيعيين الإسلاميين، ومن بعض أصدقائها العلمانيين، كما ذكرت الآثار الإيجابية للعلمانية على الدول التي تبنتها، وفِي هذا المقال أحاول الإجابة على تساؤلين مهمين :
الأول: ما حاجاتنا إلى العلمانية، وهي فكرة مستوردة من الغرب، وتتسم بـ (خصوصية ثقافية أوروبية) لا تنسجم مع تاريخنا، ولا تصلح لمجتمعاتنا وخصوصياتنا الثقافية والدينية، وقد أغنانا المولى عز وجل بالإسلام ديناً هادياً ينظم شأننا العام والخاص؟
للإجابة على هذا التساؤل، نعم، نحن بحاجة إلى مضامين العلمانية، لتجاوز واقع التخلف والعجز والفرقة والنزاعات العصبية (القبلية والطائفية)، الذي جعل بأسنا بيننا شديداً، وحولنا إلى مجتمعات عالة على العالم(مستوردين مستهلكين)، لحاقاً بركب المنتجين المزدهرين .
الذين يتمسكون بالخصوصيات الثقافية والدينية والتاريخية، حجة لرفض المفاهيم المستوردة، في عالم اليوم، إنما يعانون انفصاماً عن واقع حياتهم وحياة مجتمعاتهم المعاصرة، فنحن منغمسون في منتجات الحضارة، مادياً وفكرياً، حتى النخاع، ونحن لم نستورد فقط العلمانية،إنما كل شيء في حياتنا (أفكاراً ومعارف وعلوماً، فضلاً عن الماديات) وشأن العلمانية لا يختلف عن القيم الأخرى: الديمقراطية، الاشتراكية، حقوق الإنسان ..
أما الخصائص الثقافية للمُجتمعات، فأمر لا ينكر، إلا أنها اليوم، أصبحت نسبية في عصر العولمة، فما من خاص إلا أصبح عاماً، وسقطت الحواجز، وأصبح العالم متشابكاً في كل شيء، يتأثر ويُؤثر بعضه في بعض (وهذا الوباء العالمي الذي أدعو المولى أن يرفعه، خير دليل) وصارت الخصوصية الثقافية حجة واهية، أما الخصوصية التاريخية، فصحيح أن النشأة التاريخية مُختلفة عن الغرب، لا كنيسة ولا بابا في تاريخنا، إلا أنه لا إنكار لوجود سلطة دينية كانت جزءاً من منظومة الخلافة، تتدخل في الشأن العام، تتهم وتكفر وتُصادر حرية الفكر وتستعدي السلطة على المفكرين الذين تعدهم زنادقة ومرتدين، فكانوا يضطهدون .. في عهد (المهدي) وحده، أقيمت (محاكم الزنادقة) قتلت وحرقت جمعاً كبيراً من المُفكرين والشعراء (موسوعة العذاب) للشالجي 7مجلدات و(تاريخ التعذيب في الإسلام) للعلوي و(ديوان الزنادقة) وأما الخصوصية الدينية، فصحيح أن ديننا يتضمن تعاليم وأحكاما لتدبير الشأن العام، لكنها مبادئ عامة مرشدة (الشورى، العدالة، المساواة، الحرية) لا تنزل إلى الأمورالتنظيمية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن أنها لم تمنع الإفادة من تجارب الآخرين، فالحكمة ضالة المؤمن، وما قامت حضارتنا وازدهرت وسادت العالم إلا بقطف ومزج ثمار الحضارات السابقة (البيزنطية، الرومانية، اليونانية، الفارسية، الهندية، الصينية)
الثاني: ما العناصر الإيجابية في العلمانية التي تفيد مجتمعاتنا؟ أبرزها :
-1 تأكيد (المواطنة) بصرف النَّظر عن المُعتقد والجنس والطائفة، معياراً للحقوق والواجبات .
-2 تعزيز (مركزية الفرد) في النظام السياسي والاجتماعي .
-3رفض توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية .
- 4 تجريم استخدام دور العبادة لترويج أجندة سياسية أو حزبية .
-5تبني مبدأ (الحياد الديني) للدولة، فلا تنحاز لدين أو مذهب، وإنِّما تعامل كافة أصحاب الأديان على قدم المساواة .
- 6منع وصاية المؤسسات الدينية على الشأن العام .
-7 كسر احتكار المؤسسات الدينية، للفهم الديني، وفرضه على المجتمع .
8- تمييز (الشأن الدنيوي العام) عن (الشأن الديني الخاص)
9- الفصل بين الفضاءين: الديني والسياسي، وأنه لا تعارض بين علاقة الفرد بخالقه، على أساس (الاختيار الديني الحر) وعلاقة الفرد بغيره من الأفراد في إطار التنظيم العام، على أساس (العقد الاجتماعي الحر)
10- تنأى الدولة العلمانية عن التحالفات السياسية مع الأحزاب الدينية لضرب مناوئيها من الأحزاب السياسية الأخرى أو العكس، تحالفات تبادل المصالح، كان سائداً عبر التاريخ الإسلامي، وما يزال (أس البلاء) .
المحصلة: إذا كانت مجتمعاتنا لا تزال متوجسة من العلمانية، إثر التشويه وسوء الفهم اللذين لابساها، فإنها تستطيع الإفادة من هذه العناصر العشرة، ومن آليات عملها، ما يعينها على تطوير دولها لتكون دولاً (مدنية حديثة) كما هي في الغرب، مع الحفاظ على قيم الإسلام ومبادئه، كونها مجتمعات إسلامية.