تاريخ عمان يتحدث عنها.. وكفى !

تاريخ عمان يتحدث عنها.. وكفى !

د. مجدي العفيفي

 

 (1)

 عمل موسوعي مؤسسي.. ثقيل الوزن الفكري والسياسي والثقافي، يملأ فراغا تاريخيا في منطقة الخليج، يبعث رسائل علمية وعملية إلى الباحثين عن الحقيقة التاريخية والفنية، يؤكد أن منطقة الخليج لا تزال تحتاج المزيد من البحث عن جوهر الأشياء لا الأشياء نفسها، وما أقدمت عليه مسقط مؤخرا برهانا صادقا على أن الخليج ليس نفطا فقط بل هو حضارة واسألوا موسوعة «تاريخ عمان عبر الزمان» التي تؤكد أن من ثقلت موازينه التاريخية فهو في حاضر قادر على المواكبة والمواجهة في عصر يتسم بأن متغيراته أكثر من ثوابته.

  (2)

في عام 1995 استدعت السلطنة روح التاريخ وحضارته الى الحاضر المشبع بالطموح للإقلاع المستمر إلي المستقبل بموسوعة « عمان في التاريخ» التي كتبها ثلة من العلماء العرب، للتحليق بطائر المجتع العماني في أجواء الخليج الذي يشهد لعمان بتاريخها الموغل في العراقة، ويتسامى في فضاء حضارات العالم الشرقية، جيلا إثر جيل، وحقبة تنسل من حقبة، ومرحلة تتخلق من مرحلة.  

وفي عام 2020 لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن مع إشراقات العهد العماني الجديد تدشين موسوعة «تاريخ عمان عبر الأزمان» وعلى مرأي ومسمع من رجال السياسة والثقافة والصحافة والإعلام  ووكالات الأنباء والفضائيات ودور النشر العربية والأجنبية في قلب معرض مسقط الدولي للكتاب .

من وحي هذه الفاصلتين نتسمع صوت التاريخ الحقيقي، الحي القائم بشواهده ومشاهده، الرابض في صدور الذين أوتوا العلم .. والراكض نحو آفاق أكثر رحابة.. ليحق الحق  العماني الذي لا يمسه إلا العالمون.. وهو  حق وصولا الى الحقيقة... والحقيقة مخبوءة في هذه الأرض الطيبة التي لا تقبل أن تنبت إلا طيبا.

إنه حدث لو تعلمون عظيم ... أن يصدر هذه الموسوعة «مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤن الثقافية» ضمن منظومة ثقافية تاريخية بشرنا بها في مسقط فبراير الماضي،  وصلالة قبل أيام ، وقريبا في المنطقة الداخلية (سلوت) في سياق المنظومة العمانية في كليتها، بتجلياتها التي تتمايز بأنها قادرة على أن تكسر أفق التوقع..!. وكم كسرت وستكسر.. بالوثيقة والمستند والعلم واليقين غير المراوغ.

(3)

(عصور ما قبل التاريخ).. عندما يتحدث التاريخ الإنساني من قلب عمان بهذه العبارة فإنه يدركها عمليا وعلميا بعيدا عن شعارات الذين يتسولون التاريخ ويسوقون الوهم التاريخي ، ذلك أن«ثمة شعوبا عاشت على هامش التاريخ، ومع ذلك تصطنع لنفسها تاريخًا - ولو مزيفًا - تحفيزًا على البقاء والاستمرار، وأن هناك شعوبًا وصلت إلى قمة النفوذ والمال والقوة، لكنها تفتقر إلى التاريخ لأنها حديثة التكوين، فما بالك بشعب مثل الشعب العماني يضرب بجذوره في عمق الزمن بل إلى بواكير الحضارة الإنسانية، وظهر على مسرح التاريخ المكتوب وساهم في إرساء لبنات قوية وأساسية في الحضارات الأولى» طبقا لما ذكرته بتوسع في كتابي (الأبعاد المتجاورة في فكر السلطان قابوس).

(4)

موسوعة «تاريخ عمان عبر الزمان» تتوهج بثمانية كتب سعتها 2147 صفحة.. مرجعيتها 788 مصدرا ومرجعا عمانيا وعربيا وأجنبيا ومئات الرسوم النقوش الصخرية والكتابات التاريخية، والتشكيلات الأثرية، واللوحات التي أبدعتها ريشة الطبيعة بكل عفويتها وعبقريتها لتظل تجادل الأجيال والزمان والمكان والإنسان في عمان. وقد هيأ مكتب مستشار جلالة السلطان للشئون الثقافية المناخ العلمي لهذه الجدليات الحضرة والحضارية، وهذه الكثافة التاريخية ، وهذه السعة الواسعة من استدعاء شرائح تعود الى المليوني عام ، إنما تؤكد على أن قوة العراقة وطاقة الجذور وثبات الأصول ،  تمنح إنسان اليوم الطمأنينة الحضارية وهو يستند إلى جدار تاريحي صادق لا ينقض ولا ينبغي له.

 (5)

 صدق السلطان قابوس ، رحمه الله، حين جعل من التاريخ قيمة مضافة للمواطن العماني منذ بواكير النهضةالحديثة تستنهضه لتعزز حاضره هو يقلع نحو المستقبل، ذلك  أن مكونات الشخصية العمانية لديها من التراث ما يغنيها عن استلهام تراث الغير، كان الوعي بالتاريخ دافعًا للبحث عن سر القوة الكامنة التي جعلت العمانيين صامدين أمام عوادي الزمن ومتغيرات الأيام منذ ألوف السنين،

ومن ثم فقد حق له أن يقول: «لقد أسهمت عُمان على امتداد تاريخها الطويل في صنع الحضارة الإنسانية. وكان لأبنائها جهد غير منكور في خدمة هذه الحضارة، فالموقع المتميز لهذا البلد الطيب، والروح النضالية التي حملت العُمانيين إلى أقاصي الأرض، يجوبون البحار، ويمتطون الأخطار، فيلمسون بأيديهم، ويشاهدون بأعينهم، ويخالطون بقلوبهم وعقولهم، صنوفا من الحضارات، وضروبا من الثقافات، وأشكالا متباينة من التقاليد والعادات.. كل ذلك كان له ولا شك أثر بارز في البناء الحضاري الذي شاده الآباء والاجداد، وصاغته الأجيال المتعاقبة تراثا حيا خالدا يجسد ملامح التاريخ وملاحمه، ويعبر بصدق عن الثراء الباذخ للتجربة العُمانية الضاربة في أعماق الزمن».

 وهذه الفقرة المضفرة بالثقة والفخر والزهو اتخذتها موسوعة عمان عبر التاريخ نقطة عبور لأجواء العصور العمانية السحيقة، فكان انتقاء واعيا ومقصودا ومحملا بدلالات شتى.

(6)

تحملك طيور الموسوعة الخمسة لتصفق بأجنحتها في فضاءات ما قبل التاريخ، وتحلق بك في أجواء  الزمن البعيد  المديد العريق العتيق ، هناك إلى الأبجدية العُمانية، وكينونة عمان وأهلها الذين هم  السكان الأوائل في بلاد العرب حيث منطقة الأحقاف أرض قوم عاد، وبار في أرض الأحقاف، ثم تعود بك بك إلى اللحظة العمانية الراهنة، مرورا بالتحولات التاريخية والسياسية والفكرية التي شهدتها عمان التي كانت مسرحا لأحداث انسانية ودولية كبرى.

تستهل الخمسة مجلدات للموسوعة جزأها الأول  عن“عصور ما قبل التاريخ” والتعرف على أقدم من سكن فيها من خلال المعالم الأثرية وتحليل حراكهم الإنساني موثقابالدلائل الأثرية، نعيش مع الجزء الثاني  في أجوآء عمان خلال الفترة (3000 -1300 سنة قبل الميلاد)وهي فترة تصدير النحاس إلى بلاد الرافدين ووادي الأندووس (3000 سنة قبل الميلاد) بينما يفرد الجزء الثالث فصوله ال» الحديث عن عمان خلال الفترة (1300 سنة قبل الميلاد ـ 525 سنة ميلادية) ويتضمن  التحقيق والتوثيق لأسماء أطلقت على عمان وبعض أقاليمها، حيث إنه وبنهاية الألفية الثانية قبل الميلاد بدأت تحولات جديدة تكللت بقيام حضارة إقليمية متناغمة على طول وعرض عُمان التاريخية.

ويتوقف الجزء الرابع  عند عمان خلال الفترة (627 سنة ميلادية ـ 1970 ميلادية) ويستعرض حقبا مهمة من التاريخ العماني،  منذ دخول الإسلام إلى عمان عام (6 هجري/627م) وأسلم أهلها طواعية، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام لأهل عُمان نظام حكمهم الذي كانوا عليه، فكان للإسلام الأثر البالغ في حياة المجتمع العماني في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى في الجانب المعماري.

 (7)

و... يتمهل  الجزء الخامس أمام تجليات (النهضة العمانية المعاصرة 1970) فيلقي الضوء الساطع على  ملامح (الرؤية) ومعالم ا(لرؤيا) لدى السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله والتي بها كان الإدارة السياسية والإوادة الإنسانية في تشكيلات المجتع العماني الحديث عبر الخمسين عاما الماضية.

 ثم تشفع الموسوعة هذا الجزء بالإشارة المكثفة إلى اللحظة الفارقة بين عهدين، رحيل السلظان قابوس بن سعيد واعتلاء السلطان هيثم بن طارق عرش عمان، وتوثق إلى مجريات نقل السلطة الهاديء، عبر بيان ديوان البلاط السلطاني والبيان الأول لمجلس الدفاع وكلمة سمو السيد فهد بن محمود آل سعيد نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء (رئيس مجلس العائلة المالكة الكريمة)، كما يتعرض إلى البيان الثاني لمجلس الدفاع، واستعراض نص رسالة  السلطان قابوس، وإعلان مجلس الدفاع تثبيت جلالة السلطان هيثم بن طارق سلطانا لعمان يليه أداء قسم اليمين والخطاب الأول لجلالته حفظه الله.

وفي سياقة بلاغة الإيجاز حرص مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية على تقديم لمحة تيسير على المتلقي فأصدر ثلاثة مواجز للموسعة ، الأول :موجز «عصور ما قبل التاريخ إلى عام 1970م» والثاني:«مسيرة النهضة العمانية المعاصرة 1390هجري1970م)» والثالث:«التراث البحري العماني»، وبذلك تكتمل الموسوعة لتتجاور مراياها وتتحاور أبعادها كمنظومة سردية تاريخية موثقة ومحققة.

(8)

 ثمة إشارات أكثفها في االتالي:

- أن الموسوعة اتسمت بالتوزيع العدل للعناصر التي شكلت منظورها، فجاء بنسب متقاربة من التساوق والتوازن بين الكلمة التحليلية والصورة المنقوشة على الصخور واللوحة المرسومة على جدران الطبيعة والدليل الأثري، والاستعانة بما هو موجود في متاحف العالم ودوره الوثائقية ذات الشرعية العلمية.

-  أن هذه الموسعة جاءت في توقيت بالغ الأهمية، إذ تقدم فتحا جديدا في دراسة علم التاريخ الحقيقي الموثق، وتدحض الذين يجعلون من التاريخ أكبر جهاز لتكييف ( الهوى) حسب الأهواء..! لاسيما أن ثمة اتجاهات لاهثة لدى كثير من دول العالم لشراء تاريخ لها بأي ثمن، الصاقا وتزييفا وتحريفا.

- أن هذه الموسوعة تؤكد أن(  الآثر هو الأصدق «إنبــاء» من الكتب) مع التقدير لشاعرنا أبي تمام صاحب البيت الشعري الشائع ( السيف أثصدق إنباء من الكتب).

 (9)

 و.. انطلاقا من المبدأ العظيم ( ولا تنسوا الفضل بينكم) فإن هذا العمل ، طبقا لمحتواه، هو عمل عاني خالص النفس عماني  الروح عمانية الرؤية عمانية، ويقف معالي عبد العزيز بم محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية،  مايسترو هذا الإنجاز  الموسوعي العظيم، ومعه فريق البحث العلمي للموسوعة من المكتب : د.سعيد بن ناصر   السالمي المدير العام  وحسن بن عبدالله الجابري مدير إدارة المواقع الأثرية، والباحث معطي بن سالم  المعطي  وابتسام بنت سلطان الزيدية أمينة المكتبة،  خليفة بن منصور الشامسي، وأحمد بن حسين الفارسي وأسماء بنت باقر الموسوية،  ود.ر محمد بن هلال الكندي – دراسة العصور الجيولوجية، والبروفيسور جيفري روز – دراسات العصور الحجرية، ود. أسمهان سعيد الجرو- دراسة النقوش والكتابات القديمة،والمراجعة النهائية للموسوعة قام بها الشيخ محمود بن زاهر الهنائي مستشار وزير التراث والثقافة للشؤون الفنية، أما التصميم والإخراج فقام به المبدع ربيع أندراوس.