د. صالح الفهدي
قال لي أحد الأصدقاء إنه كان يحضُر اجتماعات مع مسؤولين أجانب، تتعالى فيها أصوات المتعارضين في الآراء، المتخالفين في الأفكار، فيلقِي هذا اللوم على ذاك، ويحمل هذا الخطأ على غيره، وتضجُّ قاعة الاجتماعات بالأصوات الغاضبة، وتُهدر بالآراء المخالفة، ثم حين يخرجون من القاعة يذهبون للغداء مع بعضهم البعض فيضحكون ويمزحون، وكأنَّ شيئاً لم يكن من ذلك الطنين والضجيج..!! يضيف: أقف مبهُوراً وأنا في الوسط بينهم، محتاراً: لأي معسكر أنتصر، وأتحيز، ثم أحمد الله أنني لم أتحيز لأحد بعد أن أرى تلك السحابة القاتمة وقد انزاحت وعادت الأجواء لطيفة فيما بعد"..! أما نحن -والحديث له- فإننا إنْ ألقينا السلام على أحد ولم يرُد، فلن نكلمه عامين كاملين!!!!!
وهذا إحدى أكبر مُشكلاتنا، وهي أننا لا نفصل بين الفكرة والشخص، فنخلط بينهما، ولا يزال بعضنا وقد نال من الشهادات العُلى ما نال مقيداً في هذا الطبع المشين، والخلط اللئيم، فإن هو قرأ رأياً يناقض رأيه تجنى على صاحبه، متجاهلاً أن المخالف قد خالفه في الرأي ولم يكن له يلمزه في نفسه، أو يقدحه في عرضه. وفي هذا تستوقفني بعض الآراء لأسماء معروفة تناصر فكرةً ما، فيتجنوا على ذوات المخالفين لتلك الأفكار لأنهم لم يناصروا أفكارهم، ولم يؤيدوا آراءهم!
ولقد أضرنا هذا الخلط المشؤوم لأنه أعلى مقام أناس لا يملكون حقا لوجاهتهم أو مراتبهم أو غناهم أو علاقاتهم، وأردى آخرين يملكون الحق والمنطق لأنهم لا يملكون تلك الميزات..! أضرنا لأننا نُقحم الظنون النفسية، والشكوك الشخصية في أمور العمل؛ فالموظف إن قدم عليه زميله في المنصب عاداه، وإن تميز عنه بجهده خاصمه، والمدير إن لم يتزلف له موظفه -رغم تميزه في عمله- ثأر منه في تقرير أدائه، وأقصاه في عمله، وحقره في إنجازه، وهكذا اختلطت أوراق العمل بالمشاعر والعواطف التي لا شأن لها بقضايا الأداء والعمل، فأضرته أيما ضرر!
والحال في قضايانا الاجتماعية هي نفسها، فالنصيحة لم تَعُد تُقبل من كثيرين؛ لأنها منطق يخالف علاقةً قائمةً، فأصبحنا نحب من يغدق الثناء وإن كنا نعلم زيفه وبهتانه، ونكره من يبدي النصح وإن كنا نعلم صدقه وبرهانه..! وليتنا عُدنا إلى الأسس التي ترتكز عليها ثقافتنا وعلى رأسها ديننا، وتراثنا الإسلامي، فالفقهاء لهم قاعدة تقرر أن: "الحكم على الأفعال، لا على الذوات"، وللإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- مقولة مشهورة قالها للحارث بن حوط الليثي: "الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، فاعرف الحق، تعرف أهله، والله داؤنا العضال أننا نعرف الحق بالرجال، ولا نعرف الرجال بالحق".
وهُناك موقف مشهور للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما فعله فضل حاطب بن أبي بلتعة حين بلغ أهل مكة بشأن فتح مكة مع امرأة، رغم أن فعله من الخيانة العظمى، فاستأذن عمر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب عنقه، قائلا: يا رسول الله، ائذن لي أضرب عنق هذا المنافق. فرفض النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الوصف؛ لأن خطأ حاطب -رضي الله عنه- لم ينفِ عنه الوصف الكلي من كونه مُحبًّا لله ورسوله، ومع هذا أقر النبي خطأه، ورفض عقابه عقاب المنافقين، فقال: "لعلَّ الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم".
ومن المؤسف أنَّ كثيراً مِمَّن يدَّعي الفقه في الدين قد أسهم في هذا الخلط، فكانت الأحكام لديه جاهزة يطلقها على من يشاء لفعل ما، أو سلوك معين، لم يميز الفعل من الفاعل، ولا السلوك من صاحبه، وإنما خلط بينهما، فأصبح الحكم على صاحب الفعل لا على الفعل!
إننا إذا تحرَّرنا من خلط الفكرة من صاحبها، فإننا نستطيع أن نفصل مشاعرنا عن منطق عقولنا، وعواطفنا عن بيان أذهاننا، فنقدم الحجة في مقابل الحجة، ولا نقحم المشاعر في ميدان الأفكار، حينها نشعر بالقدرة على التعايش مع أفكار الآخرين المختلفة عن أفكارنا، ونتسامح مع رؤاهم المعارضة لرؤانا.
هي مُعالجات نفسية للقناعات التي بداخلنا نحتاج إلى التعود عليها، وعلى إقناع ذواتنا بأنَّ المخالف لأفكارنا لا شأن له بنا كشخوص، ولا علاقة له بنا كأصحاب الأفكار، إنما ينقد الفكرة، وهذه مزية من مزايا رأيناها في الغرب حيث تجد المسؤول يوجِّه لأفكاره التوبيخ والتأنيب وهو هادئ السريرة، لا يثُور ولا يتقطع غيضاً، بل يرد بهدوء على الأفكار، متجاهلاً ما نراه نحن طعناً للذات، وتحقيراً للنفس..! ولهذا نجحت برامج "الرأي والرأي المعاكس" عندنا في أهدافها التي هي صراع الذوات وليس صراع الأفكار، فقد وجدت مرتعها، ومحلها، فتكسرت الكراسي على الكراسي!
إنَّها قضية يجب أنْ نُوليها حق عنايتها، وعلى كل من يدَّعي العلم، أو الفقه، أو الرسالة الهادفة في المجتمع أمانة العمل على فصل الفكرة عن قائلها، والفعل عن صاحبه.. أمانة لا يُدركها إلا من يعي سموها وقوة أثرها.