علي بن سالم كفيتان
من سِيح لوهب، الذي التقى فيه جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيَّب الله ثراه- بمشايخ جدة الحراسيس في مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ حيث حاورهم جلالته في ظل إحدى أشجار السمر هناك، فأخبروه بأنهم يتطلعون للتنمية، ويحلمون بعودة المها العربية التي انقرضت من الجدة، وشوهد آخر أثر لها في هذا السيح، فوعدهم جلالته -رحمه الله- أن يُنير دروب الصحراء، وأن يُعيد لهم ما فقدوا، ومنَّاهم -رحمه الله- برؤية المها العربية حُرة طليقة في ربوع ديارهم، وكعادة قابوس الإنسان قبل السلطان أوفى بوعده، فجلبت نواة مشروع إكثار المها العربية في العام 1982 إلى ربوع الجدة ليتحقق الحلم.
ووفاء لقابوس -طيَّب الله ثراه- ومن التقى به في تلك الأنحاء قبل أربعين عاما ونيف، أُطلقت الأربعاء الماضي طلائع المها والغزلان العربية وغزلان الريم إلى البرية، بعد أن تمَّ تأهيلها للعيش في أحضان الطبيعة البكر، ضمن برنامج طموح ينفذه مكتب حفظ البيئة التابع لديوان البلاط السلطاني، ويهدف من خلاله لإعادة توطين تلك الأنواع النادرة والمهددة بخطر الانقراض مجددا داخل محمية الكائنات الحية والفطرية بمحافظة الوسطى؛ حيث استمرَّت عملية الإكثار والرعاية والتأهيل قرابة الثلاثين عاما، حتى أصبح القطيع مُهيَّأ للتكاثر والعيش في المحمية التي تم تسييجها بالكامل لتُصبح ضمن أكبر المحميات المسيَّجة في العالم بمساحة تفوق الـ2000 كم مربع، وتحوي تنوعا نباتيا فريدا، وموائل مثالية للحياة البرية، وتشير عمليات الإطلاق التجريبية قبل عام إلى أنَّ المها والظباء العربية تأقلمت في بيئتها، وسجَّلت حالات تكاثر؛ مما شجع المختصون لبدء عمليات الإطلاق الفعلية هذا العام.
ومن نفس السيح "لوهب" الذي جلس فيه جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- مع المشايخ قبل قرابة نصف قرن، أُطلقت المها مجددا إلى البرية، وتحقَّق حلم القائد المؤسِّس -رحمه الله- وحلم الرجال الذين التقوه تحت الشجرة في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- بعودة مُلهِمة الشعراء (المها العربية) إلى بيئتها؛ فقد انطلقتْ من الصناديق والحظائر إلى الرحاب الفسيحة للجدة تحرسها عناية الله ورجال نذروا أنفسهم لرعايتها، جيلًا بعد جيل، إنهم بدو الصحراء الأوفياء للوطن وللقائد؛ فقد ضحوا بالكثير لكي تعود المها وقدَّموها بالمرعى والحماية على أغلى ما يملكون وهي إبلهم، ولا شك أنَّ هذه التضحية مُقدَّرة عند الحكومة الرشيدة. واليوم، ومع بدء الاطلاق الفعلي للقطعان، سيترتب عليهم بذل المزيد من التضحيات؛ فتلك الحيوانات المطلقة تحتاج لكل شجرة ونبتة في ربوع المحمية التي أصبحت ملاذها الوحيد للحياة، وقد لمسنا على هامش هذا الحدث نية طيبة من الأهالي لإفساح المجال للمها فيما تبقَّى من المراعي، وتنظيم عمليات الرعي الترحالي داخل المحمية، وفق آلية يتَّفق عليها جميع أطراف المجتمع المحلي والجهة المشرفة على المحمية؛ فبُورك أحفاد الرجال الذين أوفى لهم قابوس بالوعد، ووفُّوا هم بما قطعوه على أنفسهم لحماية بن سولع وعودتها إلى موطنها حرة مصانة.
سنترقَّب تدفُّق المها والظباء العربية إلى البرية، وسنحتفل في كل مرة وفاءً لقابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الذي حلم يومًا بهذا المشهد وتحقق اليوم في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- وبهذا نكُون سائرين على دربه، ووفق منهاجه لحماية مفردات البيئة العمانية في كل ربوع بلادنا الغالية، كما أنَّنا نُثمِّن عاليا موقف المجتمع المحلي في الجدة، وتضحياتهم الجسيمة؛ فهم من أسَّسوا برنامج الحماية، وأخلصوا له طوال السنوات الماضية، وما زالوا على ذلك، ونعلم يقينا أنَّ جميعهم يعملون في المحمية رجالًا ونساءً، ويُسهمون في تطورها ونمائها، ويحرصون على بقائها؛ فقد أصبحت شأنا وجوديا لهم ولأبنائهم لا يستطيعون الاستغناء عنه.
لم يكن لهذا الحلم أن يتحقق لولا توفيق الله أولا، ومن ثمَّ الجهود المضنية التي بذلتها إدارة المحمية التي خلطت الليل بالنهار منذ عدة أعوام لنشاهد ما شاهدناه بالأمس القريب، فكم كان مشهد الحرية مُؤثرا؛ فقد انطلقت القطان سريعا، وذهبت بعيدا؛ حيث سكنت سلالاتها الأولى تحت أشجار السمر وفي وديان الحقف، لتلتقي بآخر بقايا الوعل النوبي هناك، فبُوركت الجهود والمساعي الخيرة، ورحم الله القائد المؤسِّس.