"كورونا".. ودروسه الوطنية

 

د. عبدالله باحجاج

يهز فيروس كورونا العالم كله، وربما تكُون الصين الآن أكثر الدول اطمئنانا، والوحيدة التي يُطلب مساعدتها،  كإيطاليا التي تخلَّت الدول الأوروبية عنها، ولجأت لبكين التي أرسلت خبراءها ومعداتها إليها، وهذه مفارقة كبرى؛ فقد بدأ الفيروس ينحسر في الصين بعد شهر ونصف الشهر من ذروته، وانتقل الآن إلى أوروبا وأمريكا، فيما يسود خليجنا العربي والقارة الإفريقية القلق المرتفع مع التباين، وربما تكن بلادنا -ولله الحمد- أقلَّ هذه الدول إصابة بالفيروس وفق الإصابات المعلنة رسميًّا.

ويتوقَّف مُستقبله في بلادنا على مدى تطبيق الإجراءات الوقائية والاحترازية التي أعلنتها اللجنة العُليا لإدارة ملف كورونا، وقد كان آخرها تعليق الدراسة في مؤسسات التعليم الحكومية والخاصة لمدة شهر كامل.. والتساؤل يطرح حول مدى التزامنا بالتطبيق سواء على مستوى الفرد أو الجماعة؟

وهنا.. يستوجبُ التأكيد على أنَّه لا مجال هنا للاستهتار والتهاون في هذه المرحلة، وهى مرحلة عدم انتشار الفيروس، فكلما تقيَّدنا بالإرشادات، والتزمنا بالاحترازات، ستعبر بلادنا بمواطنيها إلى برِّ الأمان وبأقل الخسائر إن شاء الله؛ لذلك تظل قضيتنا الأولى الآن هي الوعي الاجتماعي، وكيفية حمله على الالتزام بالموجِّهات التي تحول دون انتشار الفيروس.

العالم لا يزال ينتظر الأسوأ من هذا الفيروس، وندعو إلى التأمل في تجربة الدول التي استخفت بالفيروس، كالصين وإيران وإيطاليا، كم يبلغ عدد المتوفين والمصابين فيها؟ وكل من سيتهاون في التعامل معه، سيكون ضحيته -لا قدر الله- وهذا ينبغي أن يصبح معلومًا للكل، في ظل حالة الفردانية التي تسود دول العالم في مكافحة انتشار الفيروس، الكل قد تخلى عن التضامن الدولي والإقليمي، الأمر الذي بدا معه المشهد العام يقول بفصيح العبارات وبكل لغات العالم ولهجاته: "اللهم نفسي اللهم نفسي".

فالدول الكبرى -كألمانيا وفرنسا مثلا- وضعتْ قيودًا على صادرات المعدات الطبية والمستلزمات الطبية، وقد خرج إلينا أمس الأول ترامب وهو يُعلن حالة الطوارئ ليكرس قمَّة الفردانية؛ لأننا أمام فيروس عابر لكل الحدود، لجأت معظم الدول إلى إغلاق حدودها البرية والجوية البحرية، وتنغلقُ على ذاتها بكل أنانية وانفرادية، حتى إنها قد ضربت بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية عرض الحائط؛ لذلك على كل دولة أن تُدبر أمورها بنفسها، وتعتمد على إمكانياتها في إدارة الأزمة.

وهكذا تجد كل دولة نفسها لوحدها داخل حدودها، تُواجِه مُنفردة الفيروس حتى لا ينتشر، وبلادنا لا تزال في هذه المرحلة، وهناك مُؤشرات مُقلقة في حالة عدم ضبط انتشاره، ندعو الله عز وجل أن لا نصل إليها، وهذا لن يتأتى إلا إذا تفاعل المواطن والمقيم مع الإرشادات والاحترازات، وقامتْ كل جهة حكومية ورسمية بدورها كما يجب، كما ينبغي أن تسارع كل الجهات إلى تطبيق قرارات اللجنة العُليا بأقصى الإجراءات التنفيذية "تشددا وغلظة"؛ لأنَّ هناك حالات استهتار لن تُردع إلا بقوة القانون وتطبيقه.

فهُناك غرائز بشرية لا يُمكن السيطرة عليها من خلال التوجيه والتوعية الطوعية، لكن يُمكن ردعها بقوة تطبيق القانون وروحه، وعِندنا كذلك نمطيَّة مؤسساتية في الأداء؛ فلو كان عندنا هذا الهاجس لما استوجب إقامة مباراة ظفار والسيب بحضور الجماهير الغفيرة، ولو كان هذا الهاجس عندنا لما استوجب كذلك أن يظل سياح من أوروبا في بلادنا، وأوروبا تتحول إلى بؤرة للفيروس.

وهنا.. تتضح أن إشكاليتنا تكمُن في الوعي الاجتماعي من جهة، وفي المنظومة الوزارية التي تسير وتؤطر للعمل الحكومي، وهى لا تزال تصطبغ بثوب الاستثناء وليس الثابت، ومعها تتعامل مع الأزمات من هذا المنظور، رغم ما مرَّت به بلادنا من أزمات كثيرة؛ منها: المناخية والنفطية والمالية، ولا تزال تداعياتها قائمة حتى الآن.

وهذا من أكبر الدروس وأهمها التي تمر على بلادنا خاصة والعالم عامة، ومن المؤكد أنها ستُثري ولادة مرحلتنا الجديدة، وينبغي أن تُعيد بوصلة دولتنا نحو داخلها أكثر من الاعتماد على الخارج في نجاح الكثير من مساراتها التنموية والاقتصادية الجديدة؛ فالانفرادية وإغلاق الحدود كاملة أو جزئية، مسار سيخرج منه عالم جديد، كما تشير التحليلات.. أهم ما يميزه طغيان الفردانية على حساب الانفتاح وحتى العولمة.

سيهدأ جنون كورونا، ويقدر له أن يكون ما بين شهرين وثلاثة، وهنا تقع المسؤولية على الفرد والجماعة والمؤسسات؛ فهذه المدة الزمنية الطويلة، تتطلب وقاية قصوى للنجاة، ومن الأهمية أن تَصِل هذه الرسالة لكل مواطن ولكل مقيم، وأن يعلم بها شبابنا الذين يبدو أن الرسالة لم تلامس وعيهم حتى الآن؛ فهم لا يزالون في المقاهي ساهرين حتى منتصف الليل، مما يحتِّم تكثيف وسائل الإعلام والتواصل.

وما بعد كورونا.. ينبغي عدم تجاهل دروسه كما فعلنا في الأزمات الأخرى، ليس فقط من منظور إداراة الأزمة وفق مختلف مراحلها فقط، وإنما الذهاب بالفكر إلى ما هو أشمل وأعظم، ومنه لابد من الانفتاح على شأننا الداخلي، ووقف مسارات معينة تدمج بلادنا في العولمة، وترفع يدها عن الاقتصاد والمجتمع، فمثل هذه الأزمات -التي نتوقع تجددها- تلح على "اجتماعية الدولة" ولا يمكن تسليمها للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، ولا الرهان على الخارج.

فكورونا يعيد بوصلة الدولة نحو داخلها أولا في كل مناحي حياتنا، بدءا من إنتاج أساسيات دوائنا، وسلة غذائنا، والاعتماد على استثماراتنا المحلية في تنفيذ مساراتنا الاقتصادية من خلال صناديق تقاعدنا العديدة، ومن خلال استثمارات رجال أعمالنا التي تعجُّ بها البنوك الخارجية، وتستفيد منها دول أخرى. وهنا، لابد من العمل على عودتها بعد ما هاجرت للخارج تحت ظروف معينة ليست مبررة، والآن بعدما استقرت الحال، وظهرت قوة دولتنا في مؤسساتها، ينبغي العمل على عودتها كأولوية.

ونشدِّد هنا على إنتاج سلة غذائنا محليًّا، وهنا يظهر لنا النجد في ظفار كأولوية حتمية لتأمين غذائنا في السِّلم والأزمات، وتحقيقه لا يتطلب خططًا طويلة، وإنما يمكننا الوصول إليه -أي التأمين- بقوة الإرادة الفورية، وتصحيح مفاهيم مغلوطة عن زراعة المواطنين في النجد، صحيح هناك اختلالات، لكن لا ينبغي أن تعمَّم؛ ففي مقابلها هناك جهود ذاتية من الشباب، اخترقت الصحراء وحوَّلتها إلى سلة غذاء واعدة لبلادنا، فيجب الوقوف معها، والاعتراف بالواقع الذي أنجزوه لا تدميره كما كان مُقرَّرا، ولو دُمِّر، لكان ذلك جنونا من اللاوعي، وتصورًا خاطئًا للواقع الزراعي في النجد.

كورونا يُحتِّم تغيير نظرتنا للكثير من المسارات والسياسات والرؤى باتجاه تعزيز مقومات الدولة الوطنية التي يُحاول البعض تجريد بلادنا منها، ودمجها في منظومة العولمة، فمرحلة تاتشر/ريجان يتم الآن في أوروبا وأمريكا الانقلاب عليها، وتساعد أزمة كورونا على هذا الانقلاب؛ فالخبراء يرون أن العالم لا يُمكن أن يظل كما كان قبل كورونا؛ لذلك نقترح تشكيل لجنة عصف ذهني من كل التخصُّصات العلمية والمهنية، لاستشراف حجم المتغيرات والتحولات الدولية المقبلة، وكيف يُمكن لبلادنا أن تكون في قلب الحدث في الوقت المناسب، في ظل الحفاظ على مسار قوة دولتها الوطنية.. وهذا سيكون موضوع مقالنا المقبل.