العهد الجديد

4- تبسيط الإجراءات

د. صالح الفهدي

تضمّن الخطاب التأسيسي الأول لجلالة السلطان -هيثم بن طارق حفظه الله- للمرحلة القادمة عنصرا رابعا هو السّعي لتبسيط الإجراءات، وهدف كهذا يعني الكثير بالنسبة للوطن وتنميته؛ إذ تتعطّل مسيرة وطن بأكمله، وتتباطأ فيه مسارات التنمية بتعقّد الإجراءات التي غدت سمة بارزة في القطاع الحكومي لدينا..! وعلى عكس الإبطاء والتأجيل والتعقيد يأتي "التبسيط" الذي يعني التسهيل، ويرمي إلى الإسراع في إنهاء الإجراءات.

لقد ظلّت الأصوات تتعالى طوال الفترات الماضية من كل حدب وصوت هاتفة: يا من تحرصون على تقدّم وازدهار الوطن بسّطوا الإجراءات..! لكنّها مجرّد أصوات لا تتبعها إجراءات وبرامج حازمة..! أصوات تعلو وتخفت كموج البحر الذي يختفي على أطراف الساحل..!

موظّف بسيط جدا يعيق مشاريع لو قامت لأسهمت في رفد التنمية الوطنية إسهاما كبيرا، لكن ولأنه لا بد من توقيعه المبجّل على التقرير، وتوصيته الحاسمة، يتمنّع دون سبب، يتغيّب، يتسيّب، يعاند، يؤخّر، يطلب مرفقات، يضيّعها، يطلبها مرة أخرى، ثم يقسِّط الطلبات؛ يطلب أخرى وأخرى، يتلذّذ برؤية المراجع: مرهقا، متأففا، متوسلا، حزينا، مترجّيا، متعشّما، حائرا، منكمشا، خائرا..!

يفعل كل ذلك لأنّه يعلم بألا أحد يحاسبه على تقصيره فرئيس القسم يفعل ذلك، والمدير، وصعودا.. كلّهم يفعلون ذلك، فالتعطيل ثقافة متأصّلة، وتعقيد الإجراءات عادة لا يجوز التخلّي عنها..!

مشاريع تعطّلت، ومستثمرون رحلوا، ومؤسسات صغيرة ومتوسطة تتلّمس فرجة النور لتخرج فلا تجدها، ورجال أعمال تخلّوا عن أعمالهم.. كل ذلك بسبب تعقيد الإجراءات..! فما السبب؟! كلّ ينادي من طرفه.. لكن الكلام لا يغني عن الفعل شيئا..!

نقول دون مواربة في الطرح: إن التعقيد هو سبب من الأسباب التي أنتجت الفساد بأنواعه..!! فكلما زاد العمل الروتيني الرتيب، وتعقّدت الإجراءات، تتعطّل المصالح، وينتج عن ذلك الابتزاز الذي يولّد طرقا ملتوية لقضاء المصالح لها أثمانها الخفيّة ماديا وأخلاقيا..! يقول الراحل د. غازي القصيبي في كتابه"حياتي في الإدارة": "قال لي أحد المواطنين ذات يوم: كل مرّةٍ تصدرون فيها نظاما جديدا تنشأ رشوة جديدة"..!!   

التعقيد الذي نقصده هو في الإجراءات التي ليس من ورائها طائل، لو تفكّر فيها المرء الحصيف، وأعمل فيها فكره وجهده لخرج منها بموجزٍ غير مخلّ، واختصار غير ممل..! 

إنّ التعقيد في المصالح إنما تمثِّل الأزدواجية أحد أسبابه، حيث أصبحت كل جهةٍ تعمل بمنأى عن الأخرى كالجزر المتفرقة الأوصال..! وهذا ما أدى بدوره إلى إهدار الأموال والجهود والزمن والإمكانات وهي جميعها ثروات وطنية لا تقدّر بثمن. كما أنّ تقرير التنافسية يعدّ دليلا على التعقيد في تخليص المعاملات، واستخراج التصاريح، وبقية الإجراءات التي ينظر إليها المستثمر بعين الحرص والدقة..! يقول إيجور لوكسيك Igor Luksic رئيس وزراء الجبل الأسود سابقا: "إننا مصممون على تحسين البيئة الاقتصادية بجذب المستثمرين عن طريق التخلّص من الروتين".

وقد قلت سابقا أنّه "ما لم تتبن الحكومة برامج ذات فعالية وصلاحيات لتبسيط الإجراءات فسيظلّ الحال على ما هو عليه راكدا، خامدا، وسنظل نعْلك به طوال العقود القادمة..!"

ولم يعالج العمل الكبير الذي لا شك قد صرف له الملايين لمشروع الحكومة الإلكترونية، التي أصبحت اليوم تنعت بـ"الحكومة الذكية"، لم يعالج إشكالية البيروقراطية الجاثمة على صدر القطاع الحكومي للأسف، لأن العقول لم تهيّأ للانتقال إلى عصر التقانة، انتقالا جذريا، وإنّما ظل العمل خجولا في بعض الجهات، وعبر مواقع إلكترونية لا تكاد تستخدم لأسبابٍ منها أنّها افتقدت إلى جدية التطبيق، ودقة المتابعة، بالإضافة إلى اعتبار التحول الإلكتروني مشروعا وطنيا ينقل الوطن بمؤسساته وأفراده إلى مرحلة عصرية جديدة بمنهجيةٍ واضحة، ورؤى جليّة.

وإذ نحن بإزاء مرحلة جديدة يؤمل منها التغيير، فإننا ننظر بتفاؤل إلى جعل بيئات العمل محفِّزة للموظفين، وجاذبة للمستثمرين، ووفقا لذلك فإنَّ تغيير الوضع القائم الذي تطغى عليه ثقافة التعقيد، إلى الوضع الأمثل بتبسيط الإجراءات، فإنّه لابد وأن يتكئ على أسس متينة تقوم على الآتي:

  • تأسيس ثقافة وطنية لـ"تبسيط الإجراءات" تقاد من أعلى سلطة في البلاد، إشرافا وتنفيذا، وذلك عبر تقديم نماذج واقعية لهذا التبسيط.
  • إنشاء دائرةٍ أو هيئةٍ حكوميةٍ أو مكاتب في كل وحدات الحكومة تعنى بتبسيط الإجراءات وتلحق بالإدارات العليا التي يجب متابعتها هي الأخرى.
  • الاستفادة من تجارب دول أخرى طبّقت معايير رضا المراجعين عن الخدمات المقدّمة من الجهات التي تتبع الحكومة.
  • الاستفادة من وضع "المخبر السرِّي" الذي يكون مهمته تقييم الإجراءات في عمومها.
  • الشروع في تطبيق مقاييس للأداء الحكومي، وتحفيز الأداء الحكومي المتميّز، ونشر ثقافة التبسيط والتيسير والدّعم.
  • وضع تقييم شامل للجهات الحكومية في مدى تبسيطها للإجراءات أو تعقيدها عبر تحولها الإلكتروني ووقت الإنجاز، وتتم بناء على ذلك عملية تقييم لكفاءة رؤسائها والعاملين فيها.
  • حقن المناهج الدراسية بما يتواءم مع ثقافة تبسيط الإجراءات، والتطلع نحو مستقبل تسوده قيم عملية عليا تدفع بعجلة التنمية دون قيود تثقل عليها حراكها.
  • مراجعة القوانين المعيقة، وتوسيع الصلاحيات، والتفويض اللازم، ومنح مزيد من المسؤوليات، إلى جانب المراقبة والمساءلة والتوجيه ومتابعة سير الإجراءات الهادفة إلى تبسيط الإجراءات.

هذه بعض المقترحات لتبسيط الإجراءات التي يجمع الكثيرون على أنّ تعقيدها قد عطّل الحراك التنموي، وأصابه في مقتل، ونفّر المستثمرين الذين بهتوا للإجراءات البطيئة، والمعيقة التي واجهوها في ذروة حماستهم لفتح مشروع يفيد الوطن وأبنائه حتى أصبحت البيئة الاستثمارية طاردة وليست جاذبة بسبب تعقيد الإجراءات، وقد آن أوان العمل على تغييرها، إلاّ أنني أقول إنّ التغيير يجب أن يكون شاملا وعاما ومنهجيا وواضحا وليس بتغيير عنصر وترك آخر، وهذا يعني إدراك المقصد من عبارة "تبسيط الإجراءات"، كما إنني لا أنسى الإشادة قبل الختام بالمسؤولين الذين يسعون للتطوير، والتخلص من البيروقراطية في وحداتهم، وهؤلاء جهودهم واضحة، تستحقّ أن يشاد بها وأن يشار إليه كنماذج متميزة للآخرين.