3- آلية صنع القرار

د. صالح الفهدي

تطرّق الخطاب السّامي التأسيسي الأوّل إلى عنصر ثالث وهو "آليات صناعة القرار الحكومي"، وذلك في معرض قول جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- "سنهتمّ بدراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا".

المعلوم أنّ القرار هو بمثابة الزناد، أو زر التشغيل، فهو الواقع بين مرحلتين: التهيئة والتنفيذ، والقضية في القرار ليست مبنية على المعلومات المتوفرة كما يقال بل ومعتمدة أيضًا على العقل الذي يصنع القرار.

وقد بدا أنّ الجهاز الحكومي يواجه إشكالات كبيرة في آليات صنع القرار انعكست تأثيراتها السلبيّة على المصالح الوطنية من حيث ما اتسّمت به من بطء شديد أضرّ بالتنمية، نتيجة للبيروقراطية المتّبعة في تراتبية سلّم صنع القرار. وكان لها أثرها في تعطيل الكثير من الطموحات لإقامة مشاريع واعدة، وفتور طاقات الحماس، وانحسار الهمم المتوقّدة، وضمور العزائم الوثابة.

لقد وصلنا - في كثير من مؤسسات الجهاز الحكومي خاصّة الخدمية منها- إلى مرحلة متقدّمة من استشراء داء البيروقراطية التي لا يصدق معها المرء أننا في القرن الواحد والعشرين؛ قرن الثورة الرابعة والذكاء الإلكتروني...!! بينما لا زالت الرسائل الورقية تضيع في الأدراج، ولا زالت عبارات "المدير في إجازة"، و"الموظف غير موجود" و "راجعنا بكرة" تسمع من جهات للأسف تفتقد إلى إدارات عصرية، تتمتع بالشفافية، والمرونة، وسرعة الإنجاز.

كما أنّ آليات صنع القرار تتصف بالبطء الشديد، والحذر، والخوف من صنع القرار خشية تحمّل الخطأ، مما أفقد الكثير ممن يفترض أن يمتلكوا أزمّة القرارات الصلاحيات التي هي حق من حقوقهم؛ تفويضا وتمكينا. في حين فإن بعض المسؤولين قد استحوذوا على جميع الصلاحيات لتكون على طاولتهم، فأصبحوا مغرقين في الأوراق والملفات، فعطّلوا قدرات موظفيهم، وأخّروا المشاريع، وأضاعوا الفرص، وعطّلوا التنمية..! رغم أنّ ذلك كان على حساب صحتهم، وأوقات أحرى أن يقضوها من أسرهم، أو في قضايا التخطيط المستقبلي.. لكنّه إغراء السلطة الذي لا يستطيعون مقاومته لأنّه مصدر القوة والوجاهة!

الأمر الآخر أنّ بعض المسؤولين الكبار لا يمتلكون الكفاءة التي تؤهلهم لأن يكونوا في موضع المخطط الاستراتيجي، والقائد القدوة لموظفيه، وهذه كاريزما لا يمكن لكل أحد أن يتّصف بها، في الوقت ذاته "لا يمكن للمكاتب أن تصنع قادة" كما قال جون ماكسويل.

لم نستفد بالصورة المطلوبة من تقنيات العصر في آلية صنع القرار، وإن كانت هناك استفادة فهي على صعيد تحويل الطريقة الورقية إلى إلكترونية لكنها لا تزال خاضعة لنفس تقاليد تراتبية المناصب، وهرمية المناصب في الوحدات الحكومية، في حين أنّ جوهر إصلاح آلية صنع القرار يكمن في اختصار العملية إلى الحدّ الأدنى وذلك عبر التفويض والتمكين اللّذين يمنحان للمسؤولين المباشرين.

وإذا كنّا نبحث عن أحد أسباب الفساد فإننا نجد أن التعقيد في آليات صنع القرار هو سبب من الأسباب، لأنه مفتاح للرشوة التي تحقق أمرين: القفز فوق مراحل البيروقراطية الإدارية، وضمان الحصول على الموافقة.

وقد ذكرت مرّة أن أحد الذين أوكلت لهم مسؤولية توحيد الإجراءات واختزالها من أجل البدء بمشروع معيّن قال لي: عندما أحضرت كل جهة ملفّاتها ووضعتها أمامي وجدتني غارقا بينها لا أرى من يجلس أمامي في الطاولة..!! ملفات مكتنزة بالطلبات والاستمارات واللوائح والقوانين والتشريعات التي ليس لها نهاية..!! يقول: طلبت أن تجتمع اللجنة بعد أسبوعين وخلالهما قرأت كل تلك الملفات ووجدتها متضاربة، ومزدوجة فيما بينها، فكلّها يطلب الطلبات نفسها، وكلّها ينشد الضالة ذاتها..!! وأخيرا تم اختزال كل تلك الأكوام من الملفات إلى استمارة واحدة.. واحدة فقط أدّت الغرض، ووفّت بالمراد..!

هذا المسؤول قام بدراسة مبسّطة حول آليات صنع القرار في إحدى الوزارات الخدمية فوجدها ترتفع صعودا حتى تصل طاولة الوزير عبر عدد من المناصب، ثم تنزل مرّة أخرى حتى تصل إلى فنيّ في إحدى الولايات، ثم تعود أدراجها إلى طاولة الوزير، ومنه نزولا إلى الموضع الذي خرجت منه، وذلك في مدة تتجاوز العام، وضياع أوقات وطاقات.. والفيصل في الأمر كلّه ليس رأي الوزير وإنّما رأي الفني الذي يقع في مكتب لدائرة في إحدى الولايات التي تختصّ بالطلب..!!

إن كنّا نحرص على المصلحة الوطنية العليا فيجب علينا أن "نرفع القيود" لتتحرّر الإجراءات من عنت البيروقراطية العقيمة في هذه الفرصة التاريخية التي يقود زمام التغيير فيها قائد أشرف على وضع رؤية مستقبلية بعيدة الأمد.

على أنني أقول إنه لا يمكن أن يتصدّى لعملية إعادة صناعة "آليات القرار الحكومي" أصحاب عقليات "الورق"، و"التواقيع على الاستمارات"، وغير ذلك من الأساليب القديمة في الإدارة، وإنما يجب أن يوكل لهذه العملية أصحاب فكر عصري منفتح، يستفيد من تجارب الدول التي تتمتع بوجود أنظمة، وأساليب سريعة وفعالية وكفؤة في صنع القرار.

إن إصلاح آليات صنع القرار تدور حول ثلاثة عوامل أساسية –من وجهة نظري- هي: الإنسان، القوانين، والنظم الإلكترونية، ولا تقتصر المعالجة على عامل دون آخر؛ أمّا الإنسان فيجب انتقاء المسؤول الذي يمتلك القدرة على صنع القرار، ووضع الثقة في أتباعه، واستعداده للتخلّي عن بعض صلاحياته لصالح تسريع وتيرة العمل لغيره من المرؤسين. في حين أن القوانين يجب أن تتمتّع بالمرونة في التعاطي مع المتغيرات، كما أنها يجب ألا تصدر في مراسيم سلطانية يأخذ تغييرها مدى بعيدا، تتغيّر أثناءه الكثير من الأحوال وإنما تصدر في قرارات يصدرها مجلس الوزراء ليكون من اليسير التعديل عليها؛ إضافة وإلغاء. أما العامل الثالث وهو النظم الإلكترونية فيجب توظيف الخصائص التي تتمتع به لصالح العمل، وهنا يجب الاستفادة من بعض الدول في طرق توظيفها، ومجالات استثمارها.

إنّ الإصلاح عملية شاملة، تتحقّق أهدافها بالشمولية التي تعتني بكل جزئية فيه. وهكذا فإن أُخذت هذه العوامل الثلاثة مأخذ الاهتمام فإنّها ستحقق المرامي التي رسمت لها، وتحصد النتائج المتوخاة منها.