أنيسة الهوتية
في تلك الحضانة، وضع أغلب أولياء الأمور أبناءهم للفترة التي يقضُونها في وظائفهم، وطبعًا قلوب الأمهات تتألم على تَرك فلذات أكبادهن في أيدٍ غريبة، إلا أنَّ الحاجة للمال المضمون الذي هو مُتطلب المعيشة الكريمة للفرد والأسرة، لا تدع لهن خيارا آخر سوى ذلك، أو جلب مربية لمن تتوافر لديه مساحة كافية من الراتب والبيت، والخيار الثالث والأصعب هو ترك الوظيفة لتربية الأبناء! ومن غير المُمكن أن تفكر في ذلك المرأة التي تشارك زوجها في مصاريف البيت، والتي تصرف على والديها، وأهلها.
وخروجًا عن موضوع الاحتياجات المادية للأسرة وتربية الأبناء بتوفير الأفضل لهم ليكونوا أجيالاً قيادية ناجحة، ثم دخولاً لعالم الأطفال في غرف الحضانة، كان هناك من هو نائم، وهناك من يلعب، ومن يرسم، وهناك "جهاد" ذو العامين جالسا كعادته يشاهد السماء من النافذة لساعات بصمت، وصديقه "كاسب" الذي جلس بجانبه مع كراسته وأقلامه الملونة، وقال بلغةِ الأطفال: هل هناك طيور شفافة في السماء؟ أم أنك تنظر إلى صديقك الخفي؟ أنا أيضاً لديَّ صديق خفي اسمه "لماع".
فقال جهاد: لا، بل أفكر، لماذا نحن سجناء؟
كاسب: هل نحن كذلك؟
جهاد : ألا ترى يا صديقي، الكبار يفعلون ما يشاؤون، ونحن مسجونون في البيت وهنا!
كاسب، وهو يرسم دوائر غير مُتقنة باللون الأحمر والأصفر على الكراسة البيضاء: نعم، إنهم يفعلون ما يُحبون، ثم يتحكَّمون فينا! كل شيء مجاز لهم ممنوع علينا!
جهاد، بعد أن "تبطَّح" على بطنه وأخذ الألوان من علبة كاسب، وبدأ بوضع نقاط سوداء في الدوائر الحمراء والصفراء، وقال: ماذا نفعل كي نعيش حياة جميلة مثلهم؟ ونمنعهم من التحكم بنا؟!
كاسب، بحماس شديد: علينا أنْ نأكل الكثير من الطعام حتى نكبر سريعاً، لأن الكبار لا يتحكمون بالكبار!
جهاد بحُزن: ولكنهم لا يسمحون لنا أن نأكل جيدا، إنهم يتحكمون في طعامنا ويقدمون لنا ما لا يؤكل!
كاسب مع نبرة حزن: صحيح، فهم يطعموننا الخضراوات كريهة الطعم، والبطاطا، والأرز والحليب ياااخ، إنهم يرفضون إطعامنا ما نُحب أكله كالحلويات والآيس كريم والكعك!! وصرخ باستفزاز: إنهم يطعموننا ما نكره، ويمنعون عنا ما نحب، إنها مقصودة يا صديقي، حتى لا نأكل ولا نكبر!
وبينما يصرخ كاسب باستفزاز، دخلت المربية إلى تلك الغرفة، ورفعته عن الأرض، ثم وضعته على كتفها وربتت على ظهره لأنها توقعته منزعجاً من الحليب الذي شربه صباحاً، لعله يحتاج إلى أن يتجشَّـأ كي ترتاح معدته!
وبعد أن تمالك نفسه وهدأ، وضعته أرضاً، وجلست في الغرفة تراقبهم.. وحين خرجت، همس جهاد إلى كاسب وقال: حقيقةً، إنهم يريدون استعبادنا.
كاسب، وهو راغب بالبكاء: بالأمس، أمي وأبي كانا يتناولان الآيس كريم الشهي ولم يُطعماني منه! وجلسا يسهران لمتابعة الأفلام ووضعاني في السرير باكرا، وكنت أسمع صوت التلفاز مع ضحكاتهم العالية، فبدأت بالبكاء حتى ينتبهوا لي لأني أريد مشاركتهم وليس النوم، ولكنهم لم ينتبهوا لي ولا لبكائي.
جهاد بحُزن: وأنا أيضا، أردت شرب المياه الغازية، لكن أمي سحبته من يدي وشربته أمامي، ثم أجبرتني على شرب الحليب! وقالت لي إنه غير صحي! لا أفهمها كيف تشربه إذا كان غير صحي، إنهم يخدعوننا بتلك الكلمة!
كِلاهما ينظران إلى وجه بعضيهما ويفكران.
فجأة، صرخ جهاد : يجب أن نبدأ بالتمرد والعصيان؟
كاسب: سنكتب مطالبنا في ورقة بيضاء أولاً، وإذا رفضوا سنعلن الانقلاب.
جهاد: لكننا لم نتعلم الكتابة؟ هل سنطلب مساعدة الأذكياء في الروضة!؟
وفجأة، دخلتْ المربية وأمسكت بجهاد، وقالت: وقت تغيير الحفاضات يا صغير، أنت أولا وهو بعدك.