الفلسطينيون و"صفقة القرن"

 

عبدالنبي الشعلة

دعُونا نؤكد منذ البداية أنه ليس ثمة فلسطيني أو عربي واحد، أو أي إنسان، بضمير حي أو حتى بضمير ميت، يعتقد أن صفقة أو خطة ترامب التي أعلن عنها قبل أقل من شهر، فيها شيء من الحياد أو ذرَّة من العدالة أو الإنصاف بالنسبة للفلسطينيين.

الصفقة فيها وبكل وضوح انحياز تام للموقف الإسرائيلي، ومضمونها يعكس بكل بساطة محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، ومُصَادَرة ما تبقى من حقوق شرعية للشعب الفلسطيني، فضلا عن استحقاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية المجحفة بالنسبة للعرب والفلسطينيين.

إنَّ الصفقة تتضمَّن باختصار شديد التخلي عن فكرة حل الدولتين، وتبقي على القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل وحدها، مع رفض عودة اللاجئين حتى إلى المناطق الفلسطينية، إلى جانب أنها لا تتفق مع الموقف العربي الثابت المطالب بحل القضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة في حدود يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

هذه الخطة بمضامينها المجحفة تأخذ من طرف كل شيء وتعطيه للطرف الآخر، وهي بذلك تقف على مسافة بعيدة جدًّا من تحقيق السلام العادل، ولا تصلح إطلاقًا كآلية لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وإحلال السلام في الشرق الأوسط.

كلُّ ذلك لا خلاف عليه، ولا أحد يلوم الفلسطينيين عندما يرفضون هذه الخطة، السؤال هنا حول الأسلوب: لماذا تسرَّع الفلسطينيون ورفضوها علنًا وبكل صلابة وصرامة فور إعلانها وقبل أن تنشر تفاصيلها؟

إنَّ الاستخدامَ المشروع، بل المطلوب، للحنكة والدهاء السياسي يقتضي عدم التفريط السريع في أوراق اللعبة والإبقاء على "شعرة معاوية" والاحتفاظ بكل أسباب الكر والفر.. أليست هذه الخطة رغم سوئها تهيئ فرصة مطلوبة لإجراء مفاوضات وإحياء الحوار وإخراج القضية الفلسطينية من مستنقع أو حالة الركود والجمود التي تعاني منها؟

أليس من المحتمل أن يكُون ترامب قد وضع في الخطة السقف الأعلى لمصالح إسرائيل لأغراض سياسية وانتخابية، وإنه بشغفه المعهود للمساومة على استعداد لتخفيض هذا السقف على طاولة المباحثات، وهو في أمسّ الحاجة إلى تحقيق اختراقات ومنجزات وانتخابات الرئاسة على الأبواب؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الوضع وراء الكواليس عادة ما يختلف عن الوضع فوق خشبة المسرح.

ويبدُو أنَّ الذين وضعوا هذه الخطة درسوا عقليتنا، ويدركون أسلوب ردود فعلنا المتسرعة؛ فوضعوها وصاغوها بالشكل الذي يجعل أو يجبر السلطة الفلسطينية على رفضها، مع قناعتهم بأنهم سيرفضونها بأسلوبهم المعتاد؛ أي فور طرحها وقبل الاطلاع على تفاصيلها، وبتسرع وتشنج بحيث يظهرهم أمام العالم، وكأنهم الطرف الذي لا يرغب في السلام بجدية ولا يسعى إليه ويضيع فرص تحقيقه، ويرفض دون تروٍّ كل الحلول والخطط والمبادرات، فهل وقعت الفريسة في الفخ؟

كان بإمكان الفلسطينيين أن يعلنوا عدم قبولهم للخطة بقوالبها ومضامينها المعلنة، لكنهم يتطلعون إلى الاطلاع على تفاصيلها ودراستها، ويعلنون في الوقت ذاته أنهم على ثقة تامة بعدالة قضيتهم، ويظهرون حسن نواياهم واستعدادهم لمناقشتها مع احتفاظهم بحقهم في رفضها في حالة عدم توافر الحد الأدنى من حقوقهم المشروعة. إنَّ الإعلان عن الاستعداد للانخراط في مفاوضات مباشرة لمناقشة الخطة لا يعني قبولها ولا يعني تخلي الفلسطينيين عن حقوقهم.

وعلى مائدة المفاوضات، يمكن للفلسطينيين الكشف عن فساد الصفقة وتعرية عوارها أمام الرأي العام العالمي، وإبداء وجهة نظرهم وتحفظاتهم، وتقديم نسختهم المعدلة منها أو المختلفة عنها، والعمل من خلال الحوار على الصعود بالمطالب وطرح البدائل، وإدخال التعديلات، وإلغاء بنود، والمناورة والتكتيك، والاستعانة بدعم وإسناد الأشقاء والأصدقاء، وحشد التأييد لمواقفهم عربيا ودوليا، فإذا فشلت هذه الجهود يمكنهم الإعلان عن رفضها، عندها سيتفهم العالم موقفهم ويقدره.

إنَّ مُواجهة الخطة ورفضها وإسقاطها يتم على طاولة المفاوضات، وفي أروقة وقاعات الاجتماعات، وبعد استنفاد كافة الوسائل.

وإضافة إلى ذلك، فإنَّ تحديدَ المواقف بالنسبة لمثل هذه القضايا المصيرية لا يتم إلا بعد مقارنة ما هو مطروح بما هو متاح من حلول وخيارات أخرى، فما هي البدائل أو الخيارات المتوفرة للفلسطينيين في ظل انسداد الأفق السياسي وغياب التوافق والإجماع بينهم، وفي ظل حالة التشرذم والشلل التي يعاني منها عدد لا بأس به من الدول العربية؛ مثل: سوريا واليمن والعراق وليبيا ولبنان، وانشغال الباقي منها بخلافات حادة بينها وبمواجهة التحديات والأخطار التي تحدق بها؟ إنَّ الواقع العربي والمشهد الدولي لا يشجعان الفلسطينيين على التمسك بالمواقف المتشددة، أو ما يُمكن تسميته بالمواقف المبدئية، ولا يوفران لهم الأرضية الصالحة والمساحة الكافية المطلوبة لإدارة الصراع من أجل الحصول على حقوقهم المشروعة أو ما تبقى منها، والأهم من كل هذا هو حقيقة أن العالم العربي المثخن بالجراح أصبح عاجزا أو غير قادر على تبني الأساليب والمفردات الفلسطينية، خصوصا في ضوء الاختلافات السائدة بينهم؛ مما جعل الشارع العربي أو قطاعات واسعة منه تمل وتيأس وتتعب من هذه القضية.

إنَّ القضية الفلسطينية أصبحتْ شائكة وشديدة التعقيد وتحتاج إلى الحنكة والصبر والرويَّة، وكثير من المرونة والدبلوماسية وتحريك كل المفاتيح والأدوات قبل غلق الأبواب، وبحاجة إلى أي منفذ مهما كان ضيقًا، خصوصًا في المرحلة التي تعيشها الأمة العربية من الضعف والتفكك والتشرذم.

إنَّ لدينا تجارب مؤلمة كثيرة في رفض المبادرات والاقتراحات والمشاريع والخطط المتعلقة بالقضية الفلسطينية؛ أبرزها: رَفَض أشقاؤنا الفلسطينيون، ورفضنا نحن معهم، بالقدر نفسه من الانفعال والامتعاض والشجب، قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في العام 1947 والقاضي بإعطاء الفلسطينيين 42.3% من كامل الأراضي الفلسطينية، ووضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية، وكلنا يقول الآن يا ليتنا قبلنا به، بينما قبل الإسرائيليون القرار رغم أنه بعيد كل البعد عن طموحاتهم أو أطماعهم بدولة من النهر إلى النهر؛ قبلوه على قاعدة "خذ وطالب" وهذا ما حصل، أما نحن فقررنا قتالهم وإخراجهم وإلقاءهم في البحر؛ وكلنا أيضًا يعرف النتيجة! فإلى جانب هزيمة الجيوش العربية حصل الفلسطينيون على أقل مما كانت الأمم المتحدة قد خصصته لهم.

ورفضنا أيضًا مبادرة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبه، أو مشروعه لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي الذي أطلقه في العام 1965 ودعا فيه الفلسطينيين إلى قبول قرار التقسيم، واتِّباع سياسة المراحل، والأخذ بأسلوب "خذ وطالب" بالنسبة لتحقيق آمال العرب في فلسطين. فأقمنا الدنيا عليه ولم نقعدها، ورفضنا مشروعه واتهمناه بالعمالة واعتبرنا مبادرته أكبر خيانة وأكبر تفريط في حقوق الفلسطينيين وكرامة الأمة العربية، وليتنا استمعنا إليه ولم نضيع تلك الفرصة أيضًا.

وجاء دور الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي أصر على أن تتضمن اتفاقية "كامب ديفيد" قبول الإسرائيليين بالشروع بالمفاوضات مع الفلسطينيين لإنشاء منطقة حكم ذاتي في الضفة وقطاع غزة كمرحلة انتقالية لتنتهي بإنشاء دولة فلسطينية، ونصت الاتفاقية على التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242.

إلا أن القيادة الفلسطينية، وبتشجيع من بعض الدول العربية، رفضت الحضور إلى "مؤتمر مينا هاوس للسلام" الذي عُقِد في القاهرة في شهر ديسمبر 1977؛ لمناقشة قضية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وشاركت فيه كلٌّ من إسرائيل والولايات المتحدة، وبهذا الرفض والمقاطعة انقطع الأمل في وجود تقدم ملموس في القضية الفلسطينية.

لقد نجح السادات -من خلال المفاوضات- في استرداد كل شبر من أراضي مصر التي كانت إسرائيل قد احتلتها في حرب الأيام الستة، أما نحن فقد حاربناه وقاطعناه وشتمناه ووصمناه بالتهم المعلبة الجاهزة مثل العمالة والخيانة، وشكلنا "جبهة الرفض" لمواجهته، وسحبنا سفراءنا من عاصمته، وعلقنا عضوية مصر في جامعتنا العربية المريضة التي نقلناها من القاهرة إلى تونس عاصمة الرئيس بورقيبه؛ فيا لحكمة أو سخرية الأقدار!

لكننا لم نتعلم الدرس كما يبدو..،،،