مدرين المكتومية
الجميع يعلم قدر الاهتمام والشغف الذي كان يكنه المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- للبيئة وجمالها، والفنون وإبداعاتها، والعلم وتجلياته، والفكر وتشعباته، إذ لم يكن جلالته- رحمه الله- حاكماً فذا وقائدا رفيع المستوى وحسب، بل كان أيضاً فناناً يعشق الفن والنغم والجمال، وصاحب اهتمامات أخرى بعيدة عن هموم السلطة وضغوط القيادة.
ولا يخالجني شك بأنَّ الشخصية الفريدة للسلطان قابوس كانت شخصية ثرية للغاية، ومما يُؤكد على ذلك أنَّ جميع من تشرفوا بلقاء جلالته- رحمه الله- أبدوا دهشتهم من عمق المعارف التي يملكها السلطان الراحل، وكالوا المديح عندما اكتشفوا معرفته الموسوعية في مختلف مجالات الحياة، من الدين إلى الثقافة والعلوم والتاريخ والفلسفة والفن والسياسة والاقتصاد والإعلام وعلم الاجتماع، وغيرها الكثير من العلوم الدنيوية والأخروية، وتلك الأخيرة كانت لها اهتمام خاص لدى جلالته- طيب الله ثراه، فكان جلالته عارفاً بالله وصاحب تجليات روحية وعرفانية ألهمت كل من التقى بجلالته ومن عرفه عن كثب.
أكتب ذلك وقد لفت انتباهي، ذلك الجانب الرقيق المشاعر، المرهف الحس، لدى جلالته رحمه الله، هذا الجانب تمثل في وردة السلطان قابوس، إذ أسهم الاهتمام الكبير لجلالة السلطان الراحل بالبيئة والتنمية ليس فقط في عُمان ولكن في كل دول العالم، في أن تقرر جمعية الورود العالمية تسمية نوع جديد من الزهور باسم جلالته رحمة الله عليه، تقديراً وعرفاناً من هذه الجمعية العالمية لجهود السلطان قابوس واهتمامه البالغ بقضايا البيئة وصون الطبيعة. هذا الموقف يجعلنا نقف لنفكر ملياً في هذه الخطوة العالمية الفريدة من نوعها، فمن المؤكد أنَّ ما قدَّمه جلالته لقضايا البيئة والمناخ وصون الطبيعة ومواردها، لا يُمكن التعبير عنه بالثناء على الجهود وحسب، ولكن كان لابد من اتخاذ خطوة تبرهن على صدق مشاعر الوفاء والتقدير العالميين للسلطان الراحل.
وما يُميز تلك الوردة ليس فقط جمالها الأخاذ بلونها الأحمر القاني، ولكن أيضًا أن هذه الوردة البديعة هي حصيلة مجموعة من الأبحاث العلمية التي عكف عليها علماء أجلاء، ليخرجوا بهذه الوردة الفاتنة الجمال، وكأنها فتاة عشرينية في ريعان شبابها، ذات خدود حمراء تسر الناظرين، وساقها الطويلة تمثل انعكاساً لجماليات الزهرة وشموخها بين الورود الأخرى، لتتجلى كزهرة يانعة مشرقة تأسر الألباب والقلوب.
ومن هنا أعرج إلى معنى يكمن في عمق التفاصيل، فالزهور بطبيعتها رُسل محبة وسلام، وما من شك أن تلك الوردة تتماهى وتتداخل قطعاً بصفاتها مع ما عُرف عن جلالته من اهتمام ورعاية كبيرة بنشر السلام والمحبة والإخاء في المُجتمعات حول العالم، وكأن وردة السلطان قابوس أُريد لها أن تُواصل المسيرة بعد الفقدان العظيم لجلالته.. نعم ذكرى السلطان الراحل خالدة، لكن البُعد الرمزي في تلك الوردة يُؤكد خلود الذكرى والمسيرة، لتكون معانيها الضمنية منارة لكل الباحثين عن السلام والإخاء والمودة، والراغبين في العيش المشترك دون حروب أو صراعات.
لن استطع أن أصف إعجابي البالغ بهذه الوردة، ليس فقط لكوني أنثى تعشق الجمال وتُعانق الزهور صباح كل يوم، ولكن لأنني أجد فيها الكثير والكثير من المعاني والمضامين التي تظهر لنا أنَّ الكون من حولنا يسير بقدر إلهي، نعم.. ذلك القدر الذي أراد أن يكون اسم السلطان قابوس لصيقاً بوردة هي رمز الجمال والبهجة، وهو القدر ذاته الذي قاد جلالته- رحمه الله- ليتولى أمرنا على مدار خمسين عاماً، نجح خلالها بحكمة واقتدار في أن يبني عُمان الحديثة القوية الأبية الشامخة كجبال الحجر، المتدفقة في عطائها كتدفق المياه في أفلاج عُمان التاريخية.
إنني مهما حاولتُ الإبحار في المعاني الخفية لهذه الوردة، لن استطيع الغوص في محيطات أسرارها، فوردة كهذه وصفها يحتاج لأزمنة، لا مبالغة وتضخيما، ولكن إجلالا للاسم الذي تحمله.. رحل صاحب الوردة وبقيت هي تثنر عطره في كل مكان.
إنَّ رحيل جلالة السلطان قابوس- طيب الله ثراه- غرس في قلوبنا ألم الفقد ووجع الفراق، فقد من نحب وفراق من نُجِل، رحل وترك لنا خيرا عميما نرفل في ثوبه، وننام قريري الأعين بفضل ما أنجزه السلطان الراحل وما أرخاه على بلادنا من أمن وأمان واستقرار.. رحل سلطاننا المؤسس لعُمان الحديثة وترك لنا وردة شديدة الجمال، قوية العطر، لتروي لنا ولمن بعدنا حكاية سرمدية عن سلطان أفنى عمره من أجل شعبه، وضحى بوقته وحياته الشخصية لكي يرى عُمان في مصاف الدول المُتقدمة، ولكي يبني وطنه بسواعد أبنائه المخلصين.
وردة كهذه لن تكون فقط للزينة والتعطر، إنما هي وردة للتاريخ، الذي سيظل يذكر مناقب السلطان الراحل في كل زمان ومكان.