مأزق الجماعات السياسية الإسلامية

 

 

عبدالنبي الشعلة

** كاتب بحريني

وقعت "الجماعات السياسية الإسلامية" في مأزق حرج حيال التطورات التي يشهدها الآن المسرح السياسي في الهند؛ فالمعروف أنّ هذه الجماعات تطالب وتدعو وتسعى إلى إقامة "دولة دينية إسلامية" على قواعد ومقومات ومرتكزات محددة، مرجعيّتها سماوية إلهية، ودستورها القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية قانونها، ويحكمها رجال دين أجلاء، وتهيمن عليها المؤسسة الدينية وليس المؤسسات الدستورية، ويتم الحكم فيها باسم الله، ولا يكون لها حدود، وتكون وظيفتها الأولى الجهاد في سبيل الله.

ويشهد المسرح السياسي في الهند الآن توجها جارفا نحو إقامة دولة دينية مرتكزة على أسس وقواعد مطابقة أو مماثلة لما تطالب به الجماعات السياسية الإسلامية ولكن بنسخة ونكهة هندوسية.

فالجماعات السياسية الدينية الهندوسية في الهند قد اشتد عودها في السنوات الأخيرة، واستفادت من دروس وتجارب جماعاتنا، وتمكنت منذ العام 2014 من الوصول إلى كراسي الحكم والسيطرة على البرلمان بأغلبية ساحقة عن طريق الانتخابات، وأخذت تنفذ برامج وسياسات تهدف إلى تحقيق أجنداتها السياسية المعلنة بتحويل الهند من دولة ديمقراطية تعددية علمانية إلى دولة دينية هندوسية "هندو راشترا" ترتكز على الشرائع والقواعد والمقدسات الهندوسية، فيتحول المسلمون فيها، الذين تتراوح أعدادهم بين 200 و300 مليون مسلم إلى "ذميين" تطبق عليهم أحكام الشريعة الهندوسية وقد تُفرض عليهم الجزية أو ما يعادلها في معجم المفردات الهندوسية.

لقد بدأت الجماعات السياسية الهندوسية منذ أن تسلمت السلطة في الهند باتخاذ خطوات تهدف إلى تقليص نفوذ ووجود المسلمين فيها؛ بما في ذلك تشريع قوانين إقصائية تستهدف المسلمين وتنال من حقوقهم الأساسية، مثل القانون الذي أقرّه البرلمان الهندي مؤخرًا، والذي يمنح الجنسية لكل من أقام في الهند من اللاجئين لمدة 6 سنوات باستثناء المسلمين، كما تمّ سحب جنسيات 4 ملايين مواطن هندي، غالبيتهم العظمى من المسلمين، الذين أصبحوا الآن مُجردين من حقوقهم ومعرضين للترحيل.

وقبل ذلك كان البرلمان الهندي قد أقرّ مشروع قانون يحظر الطلاق الإسلامي الفوري "البائن" أو الطلاق بالثلاث، وجعله جريمة جنائية يُعاقب من يرتكبها بالسجن ثلاث سنوات، وهي خطوة أولية تؤكد النية على تقليص دور أحكام الشريعة الإسلامية في الحياة العامة للمسلمين في الهند.

وقبلها بسنين وبتشجيع من قيادات الجماعات السياسية الهندوسية قامت حشود من الهندوس المتطرفين في العام 1992 بهدم مسجد "بابري" العريق المؤسس في القرن 16 الميلادي في شمال مدينة ايوديا، بدعوى أنّه يقوم على أنقاض معبد للإله "راما" في مسقط رأسه وعاصمة ملكه. كما أنّ هذه الجماعات تدعي الآن أنّ "تاج محل" الذي بناه الإمبراطور المغولي المسلم شاه جهان، هو في الأصل معبد للإله شيفا، وتطالب باسترداده.

هكذا تفكر وهكذا تتصرف قيادات الجماعات السياسية الدينية أيًّا كان انتماؤها، وأينما كانت وحيثما حلت؛ وعلى الأساس أو القناعة ذاتها فقد قام تنظيم "طالبان" الإسلامي باستخدام الصواريخ والمتفجرات لتدمير وتفجير تماثيل أثرية نادرة لـ "بوذا" بمنطقة "باميان" بأفغانستان في العام 2001، بينها أكبر تمثال لبوذا في العالم، على الرغم من الاحتجاجات والتحذيرات والمناشدات الدولية لإنقاذ هذه الآثار البوذية القديمة.

والجماعات السياسية الهندوسية ترفض قيم اللّاعنف التي نادى بها المهاتما غاندي، والتي اعتبروها تنكرًا وارتدادا عن أعظم ما تختزنه الملاحم الهندوسية القديمة وتاريخها من رجولية قتالية.

ومثل أحزاب الجماعات السياسية الإسلامية في البلاد العربية التي شكلت حشودًا ومليشيات مسلحة، فإنّ الجماعات السياسية الهندوسية في الهند شكلت هي أيضًا مليشيات مماثلة؛ أبرزها كتائب "راشتريا سوايامسيفاك سانغ أو RSS" وهي وحدات مسلحة من المتطوعين الهندوس المتعصبين؛ تم إعدادها وتطويرها في مزاوجة بين الإعداد الروحي والتدريب على الفنون القتالية.

وفي ما يشابه فرق "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فإنّ الجماعات السياسية الهندوسية شكلت فرقًا مشابهة؛ منها فرق "حماية البقر" التي تقوم بتفتيش المحلات وتتجول على الطرقات السريعة لتفتيش حافلات الشحن للتأكد من خلوها من الأبقار المساقة للمسالخ؛ فمنذ أن وُجدت الهندوسية والهندوس يعتبرون البقرة حيوانا مباركا ومقدسا، ولا يحلون ذبحها وأكل لحومها، لكن الأعوام الأخيرة شهدت طفرة من الإجلال والتبجيل للبقر، واستخدام ذلك كأداة سياسية لإيذاء المسلمين الذين يهيمنون على تجارة اللحوم وتضييق الخناق حولهم. مع أنّ الهند هي من أكبر الدول المصدرة للحوم الأبقار في العالم، وبذلك فقد أصبح المسلمون في الكثير من ولايات الهند معرضين للسجن أو القتل إذا قاموا بذبح الأبقار أو عثر على أنّهم يأكلون لحومها.

وكما تستند الجماعات السياسية الإسلامية إلى مخزون زاخر من الموروثات، فإنّ الجماعات السياسية الهندوسية تستند أيضًا إلى رصيد ثري من موروثاتها منها عقيدة "الهندوتفا" أو الأيديولوجية القومية الهندوسية، والتي تعني أنّ الهندوسية ليست مجرد ديانة، بل هي ديانة وقومية وأرض قبل كل شيء. وأنّ الهند للهندوس فإذا أردت أن تبقى في الهند عليك أن تكون هندوسيًا.

إنّ المسلمين في الهند يشكلون ما نسبته 15% من عدد السكان أو 200 مليون نسمة على أقل تقدير، أي أكثر من خمسة أضعاف سكان دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة، وهم يعيشون الآن في حالة من القلق والتخوّف والتوتر، ولا شك أنّ الجماعات السياسية الإسلامية التي تدعو إلى إقامة دولة دينية إسلامية في الوطن العربي ستقف حائرة وعاجزة حيال ما يعانيه أو ما قد يعانيه المسلمون في الهند تحت ظلال الدولة الدينية الهندوسية، إذ كيف لها أن تعترض على الديانات الأخرى أو تحرمها من ممارسة حق هي تسعى إليه وتطالب بممارسته، فقد قال الله سبحانه وتعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" أو كما قال الشاعر أبو الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم.

إنّ الجماعات السياسية الإسلامية السنية التي تسعى إلى تأسيس الدولة الدينية الإسلامية في الوطن العربي لا تختلف عن الجماعات السياسية الإسلامية الشيعية التي نجحت في تأسيس الدولة أو الجمهورية الإسلامية في إيران، والجماعتان معًا لا تختلفان كثيرًا في أهدافهما وأساليبهما عن الجماعات السياسية الهندوسية التي تسعى إلى تحويل الهند إلى دولة دينية هندوسية، ولا يختلف الثلاثة عن الجماعات السياسية الصهيونية التي استغلت الدين اليهودي ونجحت في تأسيس دولة إسرائيل اليهودية على الأراضي الفلسطينية.

لذلك فإننا لا نساند مشاريع إقامة دول دينية، وننتصر لمدنية الدولة في كل المجتمعات، وندعو إلى احترام الديانات وإبعادها عن السلطة، ونتمنى توجيه الجهود والطاقات الإيمانية إلى ما يعزز الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي، مقتنعين أن الأنظمة السياسية الدينية أصبحت بطبيعتها خارجة عن سياق العصر ولا تتمتع بالاستقرار وتظل في صراع وعدم انسجام مع مكونات المجتمع الأخرى.

ونستحضر في نهاية هذه الوقفة ما طرحه المفكر الإسلامي البارز خالد محمد خالد عن رأيه في فصل الدين عن الدولة الذي أورد في كتابه "من هنا نبدأ" أنّ "الدين حين يتحول إلى حكومة، فإنّ هذه الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق... وهي في تسعة وتسعين في المئة منها جحيم وفوضى، وأنّها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفدت أغراضها، ولم يعد لها مكان في التاريخ الحديث". رحم الله المفكر خالد محمد خالد وأسكنه فسيح جناته.