علي بن سالم كفيتان
لم يكن السيد ميلر استثناء من القاعدة فعندما حضر إليه ملك الأنحاء في رحلة صيد؛ تباهى هذا الفقير المعدم الذي يعيش في قريته النائية بجوار كوخه المتهالك على مشارف جدول ماء رقراق وحياة هادئة بأنّ ابنته تحوّل القش إلى ذهب، فأخذها الملك عنوة وحبسها في إسطبل للخيول وقال لها حولي لي هذا القش إلى ذهب قبل أن تشرق الشمس؛ هنا تمنت البنت الجميلة لو أنّ أبيها لم يكن متزلفاً، وتساقطت دموعها حسرات على خديها البريئين فما عساها تفعل الآن؟
سألت نفسها مراراً: كيف أحول القش إلى ذهب؟ هذا أمر جنوني... من أين أتيت بهذا الخيال الواسع يا أبي؟ سامحك الله... وفي هذه الأثناء انبرى لها قزم صغير وسألها عما يحزنها فذكرت له القصة فقال لها وإذا استطعت تحويل هذا القش إلى ذهب فماذا عساك تعطيني؟ قالت قلادتي... فحول لها القش إلى ذهب وأخذ قلادتها. فحضر الملك في الصباح وذهل مما رأى فأخذها إلى مخزن للقش وقال لها حولي لي كل هذا إلى ذهب في الصباح التالي مرّت الصغيرة بظروف صعبة فكيف لكل هذا الكمية من القش أن تصبح ذهباً فحضر القزم مرة أخرى وعرض عليها خدماته في الليلة الثانية مقابل أخذ خاتمها، فقبلت مرغمة فعمل طوال الليل حتى قبل حلول الفجر بقليل أنهى مهمته واختفى؛ ليعود الملك الجشع ويتفحّص منجم الذهب الجديد ويطلب منها للمرة الثالثة تحويل كمية أكبر من القش إلى ذهب.
في ليلتها الثالثة جلست البنت الجميلة تنتظر القزم الذي تأخر عليها حتى بعد منتصف الليل وبحضوره تنفست الصعداء، فقالت له إنّ الملك اشترط على نفسه أن يتزوجني إذا حولت هذه الكمية الكبيرة من القش إلى ذهب ولا منقذ غيرك أيها القزم الصغير، فقال لها وما عساها تكون مكافأتي هذه المرة، قالت لم أعد امتلك شيئا أيها القزم افعلها لله.. فقال لها نحن ممالك الأقزام لا نفعل شيئا لله، ولكنني سأشترط عليك أن تمنحيني ابنك البكر من الملك فقبلت المسكينة. وفي اليوم التالي لم يكن أمام الملك إلا القبول بالزواج منها فهي ثروة لا تنضب وجمال ريفي أخاذ وحياء لا ينتهي، وبعد زواجها من الملك لم يعُد إليها القزم، ولم تعد تحول القش إلى ذهب، فطلقها الملك وعادت المسكينة بعد حين إلى قريتها النائية لتجد أبيها السيد ميلر يصطاد سمكا من طرف النهر، فرحّب بها وعلى الفور قالت له هل تريدني أن أحول تلك السمكات إلى ذهب فاستدعت جعيدان وتوسلت إليه لكنّه لم يظهر هذه المرة لأنّ أبيها ليس ملكاً.
هذا القزم الأصلع الصغير يسمى جعيدان وتحكيه الأمهات لأبنائهن كل ليلة وباتت منه نسخ كثيرة في عالم اليوم ممن يوهمون الملوك بتحويل كومة القش إلى ذهب وفي النهاية يجدون أبناءهم في حوزة السيد جعيدان.
جعيدان اليوم لا زال حاضراً بقوة في حياتنا اليومية ابتداء من الفكر وهو ما خلدته الأمهات في عقول الصغار فمنهم من يتمنى أن يكون كالبنت التي تحول القش إلى ذهب، والآخر يريد أن يصبح القزم جعيدان العجيب، وآخرون يفضلون لعب دور الملك المتعطش للثروة، وجميعهم كانوا خطيئة السيد ميلر الذي حلم أن يتقرب للملك ظنا منه أنّ هذه المجاملة ستجر عليه رضاه وتبعد عنه سخطه.
حدثني أحدهم عن أسطورة في ظفار تشبه قصة جعيدان هذه؛ لكنها تحكى على لسان الجن فقد سمع رجل أنسي آخر من مملكة الجن يغني بأعذب الألحان الريفية فحفظ نص القصيدة التي تحكي ذهاب الأمهات للزراعة الموسمية وترك أبنائهن يبكون بينما يقوم هذا الجني عبر غنائه الحزين باستدعاء البقرة الحلوب لإسكات جوع الأطفال الرضع حتى تعود الأمهات من الحقول... إلخ.