الإبحار لآخر شاطئ تطاله أشرعة جريدة "الوطن"

 

حمود بن سالم السيابي

في مثل هذا اليوم، شممتُ رائحة الورق وعبق الأحبار؛ فالشيخ نصر الطائي يكسر طباشيره ومساطره، ويطوي دفاتر التحضير المدرسي في الخارج، ويعود للوطن ليضيف لسور مسقط البوابة الرابعة، ولوادي العور حيث تبعثر صباه أمل الإبصار، وليحدِث في مسقط التي لا تجترح الليل إلا برفقة القنديل زلزال الكلمات.

ومن دُكان بسيط خارج الباب الصغير لمسقط، أضافت البلدة الجرائد لقائمة مبيعاتها؛ فالرائد نصر الطائي يُشرق مع فجر الصحافة، فيتسابق وادي العور ليحصل نسخته من العدد الأول، ومعه كل الأودية، وكل "الشراج".

ولأنَّ جريدة "الوطن" هي مُناسبة الحديث للضرورة التاريخية في عيدها اليوم، فإنَّ الريادة الطائية ممتدة عبر الزمن، ولا تُخْتَزل في الصحافة، بل في عشرات الأمثلة المتكررة، التي شكلت الوجدان الوطني والوعي القومي.

وكما تسابقنا في مثل هذا اليوم قبل قرابة نصف القرن لاقتناء العدد الأول لـ"الوطن"، وحفظنا فيما تلاه من أعداد الخبطات الصحفية للشيخ نصر الطائي عن ظهر قلب، وتابعنا من نهر أعمدتها أول لقاء صحفي يجريه الشيخ نصر الطائي مع المقام السامي.

وشعرنا ببرودة لبنان ونحن نرتقي مع سطور الشيخ عبدالله الطائي جبل الشيخ ومرتفعات صنين ودير القمر، وهو يكتب مقاله "عائد من بلاد الأرز الشامخ". وواكبنا مسيرة الوطن، وهي تكبر مع الوطن وتنتقل مع الرائد الثالث الشيخ محمد الطائي بعد عمه الشيخ نصر ووالده الشيخ سليمان من دكان صغير بمسقط إلى شقة على مدخل شارع بروي، والمعروف إلى الآن بشارع هوندا، ثم تكبر الشقة إلى بناية تليق بـ"الوطن" بجوار قصر ضيافة الغبرة.

ولنشهد مع الرائد الثالث الشيخ محمد الطائي الجمهورية الصحفية الثالثة، وقد أصبح لها مقرها الدائم، ومطبعتها التي كفتها عناء الطباعة في لبنان فمصر فالكويت فمطابع جريدة عمان بروي.

واختفت من ترويستها عبارة جريدة يومية تصدر أسبوعيًّا مُؤقتا، بعد أن انتظم إصدارها يوميا، وباتت ذاكرة للوطن وسجلا لزمنه.

والحديث عن "الوطن" يمتد للحديث عن الجمهورية الصحفية الثالثة؛ فالشيخ محمد الطائي كان ولا يزال توأم الروح، ورفيق الدرب والعمر الأخضر، وقد اقتسمنا معا الحلم والتعب والفرح والانكسار.

إلا أن فرسي تعب قبل الأوان، فترجلتُ عن الصهوات، ومع ذلك لم يهن عليَّ قتل الفرس فقتلت نفسي ببطء، فيما استمر أبو سليمان الفارس النبيل الذي يحارب الدنيا ليعيش الفارس ومعه الفرس الذي وضعه عمه على أول الشوط، واكتسح الجوائز مع أبيه، وما زال على مسارات الركض يحصد الكؤوس ويكسب الرهانات وهو على مشارف اليوبيل الذهبي.

وفي الثامن والعشرين من يناير، عيد جريدة "الوطن"، أتذكر الرواد من أسرة الطائي الشامخة الذين أهدوا الوطن رواية ملائكة الجبل الأخضر، وديوان الفجر الزاحف، وأوبريت صوت للنهضة نادى، وتكرروا في مازن الطائي، وعزيزة الطائي، ولميس الطائي، وجهاد الطائي، وأفلح الطائي، فأهدوا الوطنَ جريدة "الوطن" والحرف الأخضر.

وأتذكر في عيد جريدة "الوطن" أبا سليمان وشريط الشقاوات يوم انتزعته خلال مرافقة سامية من بين زحام برنامج الزيارة السلطانية لبريطانيا، لنستقل القطار إلى "بدفورد"، ليرى ربوعا خضراء أمضيتُ فيها ردحا من العمر ولأعرِّفه على البجعات التي أطعمتها خبزا وشوقا.

وأتذكرُ شقاواتي وأنا أقنعه بأن نستبق بدء قمة من قمم مجلس التعاون في الرياض، فتحلق بنا الخطوط السعودية إلى طيبة الطيبة، لنصلي في الحرم النبوي، ونبلل بأدمعنا السجادة الخضراء في الروضة الشريفة، ومنها إلى جدة، فمكة المكرمة لنعتمر، ولأمرُّ به على بيت الرباط العماني، ومحل بيع فول مصري التهمه البلدوزر ضمن توسعة الحرم.

وأتذكَّر في عيد الجريدة اليوم، وأنا أمارس جنوني بالإلحاح عليه في اغتنام انتظار بدء الزيارة السامية للهند ليحملنا القطار الهندي القديم بعيدا عن نيودلهي إلى مدينة آكرا، لنجدد هناك جروح شاه جهان، ولنشم عطر ممتاز محل، ونحن نتحسَّس الرخام الناصع لأجمل وأخلد شاهد حب.

وما زلتُ في الشقاوات ونحن نصعد جبال مِري الباكستانية، وقد اغتنمنا فسحة في برنامج الزيارة السلطانية السامية لنطل على باكستان من أرفع ذراها؛ حيث الثلج والأفراس البيضاء والقلوب التي لم يلوثها قاع المدينة في "روالبندي"، ولا شغلتها السياسة كما في إسلام أباد، ولنطلق صيحاتنا من هناك "باكستان زنده باد".

وفي الثامن والعشرين من يناير، أستذكر "الوطن" الصامدة كقلعة من قلاع الوطن، رغم أفول الزمن الورقي وتهاوي القلاع الصحفية الكبيرة، وهيمنة الإعلام الرقمي؛ فقد أصر أبو سليمان على أن تبقى "الوطن" رغم كل النزيف من صحته وماله؛ لأنَّ فيها رائحة البدايات لوطن يتعملَق، وهو يستعيد مجده ولأنها حلم عمِّه وعطر أبيه.

وما زالتْ "الوطن" هي الجريدة التي أشتريها لأشم رائحة الطائي المؤسِّس، والطائي المبحِر بأشرعة الوطن، والطائي الأب التاريخي للجمهورية الصحفية الثالثة، رغم أنَّ جريدة "عُمان" كانت وستبقى وستستمر الجريدة التي أعشقها حتى نخاع النخاع؛ ففيها ولدتُ وعلى حبها سأموت.

وتبقى "الوطن" جريدتي في الهوى الوطني والعروبي، وإن تقاطعتُ شخصيا مع تعاطيها مع زوايا من زوايا الوطن العربي، فما أراهم شخصيًّا كقتلة تراهم الوطن أبطالا.

وسيبقى الثامن والعشرون من يناير عيدا للصحافة العمانية ككل، ففيه نستذكر البدايات والهامات ونهر المداد الذي ما زال يجري منذ زمن الدكان الصغير بمسقط، إلى الشقة الصغيرة بهوندا، إلى القلعة التي تليق بـ"الوطن" في الغبرة الخضراء.

ومن محاسن الصدف أن يصدر كتيبي "أشرعة البندر"، وقد انتحلتُ التسمية من أشرعة الوطن، إلا أن أشرعة الوطن تُبحر بصوت عُمان في الوطن العربي، وأشرعتي صغيرة كصغر حلمي، فتتضاءل لتبحر بأمانيّ الصغيرة لبندر مطرح فقط.

إن عيد جريدة "الوطن" عيدٌ للوطن.

تعليق عبر الفيس بوك