صينية العزاء

جابر العماني 

لقد حثَّ الله سبحانه وتعالى النَّاس على التكاتف والتآزر والتعاضد والتعاون عند وقوع المكاره والمصائب، قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ".

عندما يُصاب الإنسان بفقد عزيز على قلبه فمن الواجب على الجميع مواساته والوقوف معه وتخفيف آلامه ومصائبه، فقد وجَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المجتمع لمساندة أهل المُصاب، وذلك من خلال تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه وتشييعه ودفنه في مثواه الأخير، ثم إقامة العزاء له بالشكل الذي حثَّ عليه الدين الحنيف، لا كما نراه اليوم من عادات دخيلة على المجتمع، بحيث أصبح من الواضح أن عدوى المُبالغة المفرطة في ولائم الأفراح انتقلت إلى صالات وخيام العزاء وولائمه، فأصبحت ظاهرة الإسراف في مواقع العزاء ظاهرة مثيرة للاستنزاف، فالتكاليف التي تصرف في ليلة الزفاف أصبحت تصرف نفسها بل وأكثر منها أحياناً في ليالي العزاء، فأصبح المجتمع وأهل المصاب يعانون من مظاهر الإسراف والبذخ في مناسبات العزاء، صار الناس فيها يتباهون بتقديم ألوان الطعام في وجبات الغداء والعشاء والفطور، وتكون أغلبها على حساب أهل الميت، علماً بأن هناك روايات وأحاديث جاءت عن النبي وأهل بيته وأصحابه الميامين تنهى عن الأكل عند أهل المصيبة، فعلى سبيل المثال: ماورد عن الإمام الصادق وهو حفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الأكل عند أهل المصيبة من عمل أهل الجاهلية) فإقامة وجبات الطعام بألوانه المختلفة في فاتحة الميت أمر لا داعي ولا مبرر له.

إنَّ الشارع المقدس حثَّ وأكد على إظهار المُواساة والتكاتف والتآزر من قبل أبناء المجتمع تجاه أهل العزاء فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب واستشهاده في معركة مؤتة _ وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم)؛ وهنا إشارة واضحة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تكون صينية العزاء موجهة لأهل العزاء من قبل المجتمع للتخفيف عليهم، لا أن يصنعها أهل العزاء أنفسهم ويسرفون في تقديمها للغير.

هناك الكثير من عاداتنا الاجتماعية السيئة بحاجة ماسة إلى التغيير الجذري مع ضرورة رفع مستوى الوعي المجتمعي حول أهمية اتباع ما حثَّ عليه الإسلام الحنيف لاغير،  وهذا لا يكون إلا من خلال تنظيم الندوات والفعاليات التوعوية والمجتمعية التي من شأنها أن تقوم بدور فاعل في نقل المجتمع وأفراده من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم، وذلك من خلال التركيز على الآثار الاجتماعية السلبية التي تخلفها عادة البذخ والإسراف غير المبرر في إقامة ولائم العزاء التي تقود أهل العزاء في كثير من الأحيان إلى الاستدانة من أجل الظهور بالمظهر اللائق أمام الجميع.

فقد أصبحت بيوت العزاء في أيامنا هذه - مع كل الأسف -تواجه الكثير من التكاليف الباهضة الثمن، والتي باتت تثقل كاهل أهل الميت، فإن ما نراه اليوم من عادات وتقاليد خاطئة تعصف بالمجتمع وأفراده ما هي إلا بدعة اجتماعية فرضت على المجتمع وأفراده، لذا يجب إيقاف هذه العادات الخاطئة التي باتت تؤرق المجتمع، والتمسك بما حثَّ عليه الإسلام الحنيف فقط.

فلابد من مُراعاة تقليل الكلفة المالية المبالغ بها في نفقات العزاء، وذلك من خلال استبعاد صينية العزاء باهظة الثمن من مراسم العزاء مُراعاة لأصحاب الدخل المحدود، وأن يقوم المقتدرون مادياً بتوجيه الصرف على ما يكون أكثر نفعاً للميت ولعائلته من أعمال الخير والبر والإحسان، بدلاً من صرف تلك الأموال في البذخ والإسراف لإرضاء الناس، فرضا الناس غاية لاتُدرك، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) وقال تعالى "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ".

وهنا يتضح للجميع أهمية العمل الجاد على تخفيف المشقة على أهل العزاء، وذلك من خلال تأدية واجب العزاء بسهولة ويسر دون أي تكلف وعناء، فمن الطبيعي ألا يحصل كل ذلك إلا من خلال اتخاذ مواقف الجرأة والعزيمة بهدف تغيير عادات الإسراف والتبذير والبذخ في المجتمع إلى الاعتدال من خلال نشر ثقافة التغيير والتطوير الاجتماعي نحو حياة معتدلة خالية من الإسراف والتبذير، وهذه مسؤولية كبيرة مُلقاة على عاتق الدولة من خلال سن قوانين تحد من انتشار الظواهر السلبية في المجتمع، كما أنَّ الدولة مسؤولة عن كل ذلك، فإن  المسؤولية تقع أيضًا على العلماء والوجهاء في المجتمع، وتكاتف الجميع لمحاربة الظواهر السلبية تعني الانتصار على الظواهر التي باتت تهدد المجتمع بالجهل والتجهيل.