لا بديل عن زيادة الإيرادات وترشيد الإنفاق

الدين العام يقترب من 16.5 مليار ريال.. والمقارنات الدولية تؤكد: "في الحدود الآمنة"

 

◄ صندوق النقد الدولي: الدين السليم هو ما يحقق دخلا أعلى يمكن أن يعوض تكلفة خدمته

◄ "المركزي": محدودية القدرة على ترشيد الإنفاق بسبب الأجور الحكومية "الكبيرة نسبيًا"

 

الرؤية - نجلاء عبدالعال

 

مع إعلان تفاصيل الميزانية العامة للدولة لعام 2020، زادت المناقشات المجتمعية حول مسألة الدين العام، والعجز في الميزانيات السنويّة.. لكن عادة ما لا يكون عجز الموازنة الحكومية لدى دول العالم وكذلك الدين العام مؤرقا أو عائقا للتنمية، بل على العكس فالمؤشرات الدولية تؤكد التصاعد المستمر في حجم مديونية دول العالم من أصغر دولها إلى أغناها، وعلى رأس قائمة الدول الأكثر استدانة تأتي صاحبة أقوى اقتصاد في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تجاوز الدين العام لها 23 تريليون دولار وهو الأعلى في تاريخ العالم، ولذا يتبيّن أنّ الدين العام العماني مقارنة بالدول الأخرى ما زال في الحدود الآمنة، حتى وإن وصل إلى 58% من الناتج المحلي الإجمالي، فهو يقع ضمن الحدود العادية مقارنة بدول يتخطى فيها الدين العام 100% من حجم الناتج المحلي.

 

 

غير أنّه عندما يأتي العجز مفاجئا ويتراكم سنويا، فربما يطرح ذلك تساؤلات عن الآليات الناجعة لتقليص الدين العام، وتؤكد وزارة المالية في تقاريرها للميزانية العامة منذ عام 2016 وحتى ميزانية العام الحالي، أن العجز لابد من كبحه، ولابد من وقف تصاعد تخطي الإنفاق المعتمد كإنفاق جار في الموازنات.

ويتواصل العجز في ميزانية الدولة منذ صدمة التراجع الدراماتيكي لأسعار النفط، كما أنّه ولأول مرة تصرح وزارة المالية بالحجم الإجمالي للدين العام وتقول إنّه وصل إلى ما يوازي 16.5 مليار ريال، 77% منه ديون خارجية. ووفقا لتقديرات الإيرادات والإنفاق، فإنّ العجز المقدر في الميزانية 2020 يبلغ نحو 2.5 مليار ريال عُماني وبنسبة 8% من الناتج المحلي لعام 2020. وبعد أن كان الدين الخارجي نفسه رقما لا يكاد يذكر، أصبح حتى مبلغ خدمة الدين (الفوائد) يشكل رقما متزايدا في بند ثابت في الميزانية، ليصل في ميزانية 2020 وحدها إلى 860 مليون ريال -وهو مبلغ يزيد على مخصصات الدعم خلال العام- وهو بالمقارنة مع التقديرات في ميزانية 2019 تشكل زيادة بقيمة 230 مليون ريال، وبنسبة ارتفاع 36.5%، وحتى بالمقارنة مع ما يتوقع من أن تصل قيمة خدمة الدين في 2019 إلى 730 مليون ريال وهو رقم قياسي، فإن خدمة الدين ستظل تمثل زيادة إلى مرحلة قياسية أخرى وإن انخفضت قيمة الزيادة على أساس سنوي.

تراكم العجز

وبغض النظر عن قيمة أو نسبة الزيادة في العجز عمّا سبقها من سنوات فإنّ الواقع هو أنّ العجز سيزداد تراكمًا رغم تراجعه من 5.3 مليار في 2015 إلى 3.8 مليار في 2017 ثم إلى 2.7 مليار في 2018 وبعدها إلى أقل عجز في 5 سنوات؛ وهو المقدر للعام الجاري بـ2.5 مليار ريال ليس فقط لأنّ أسعار النفط يتوقع أن تبقى في مستوياتها الحالية لكن لأنّ الإنفاق الجاري (الذي لا يثمر عوائد عنه) يتزايد، والمصادر الأخرى الممكنة لزيادة الدخل تستغرق سنوات عديدة، وبالتالي سيستمر العجز وسيحتاج إلى تغطيته، منخفضاً عن تقديرات ميزانية 2019 ويمضي في مساره النزولي عن مستواه في الأعوام الثلاث الماضية، وسوف يتم استغلال أية فوائض مالية ناتجة عن ارتفاع سعر النفط المحقق عن المعتمد في الميزانية لتغطية العجز.

وهذا ما يفتح الباب أمام تداعيات الأسئلة عن التأثيرات والفوائد والتصنيف الائتماني وبرامج الخطط التنموية والتوظيف وغيرها من الجوانب التي ترتبط بالديون. وخلال تلك السنوات كان لابد من استكمال الفارق بين الإيراد والمنفق ولم يكن هناك سبيل سوى الاقتراض وهو ما يطلق عليه الدين العام؛ الذي يعني: الأموال التي تقترضها الحكومة وفقاً لأدوات الدين المختلفة مثل (صكوك، سندات، قرض مباشر وغيرها).

كيف بدأ الدين العام؟

وبدأت الديون في خضم خطط تنموية طموحة، ساعد على رفع سقف طموحاتها الإيرادات الأعلى من المتوقع في فترة ازدهار استثنائية لأسعار النفط تجاوز خلالها 140 دولارا، لكن ثمة اعتقاد بأنّ الاستثناء تحول إلى قاعدة آنذاك، وسرعان ما حجبت السنوات السمان التفكير في السنوات العجاف التي جاءت بلا مقدمات؛ لكن يحسب للمخططين في الحكومة أنّهم انتبهوا سريعا وفي وقت عين العاصفة عام 2016، وأشارت الخطة إلى أصل المشكلة، إذ قال المجلس الأعلى للتخطيط -في موجز الخطة الخمسية التاسعة- إن الارتفاع الكبير في أسعار النفط خاصة في بداية تنفيذ الخطة الخمسية الثامنة وحتى منتصف عام 2014م، والزيادة في كمية إنتاجه، ساهم في تحقيق الانتعاش الاقتصادي، ومكّن من تحقيق توازن مالي إيجابي حتى منتصف عام 2014، كما تزايد نمط الإنفاق الجاري، الأمر الذي أثّر على استقرار الوضع المالي العام خاصة في العام ونصف الأخيرين من فترة الخطة الخمسية التاسعة، نتيجة الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط.

وللوصول إلى السبب الأساسي في ارتفاع الإنفاق الجاري عاد التحليل إلى فترة ما قبل تراجع أسعار النفط، ليحدد موضع البداية الحقيقي، وهنا ننقل النتيجة التي وصل إليها المجلس الأعلى التخطيط في تحليله وننقل عن بيانه الموجز أنّ "الحكومة اتخذت عدداً من الإجراءات المالية الإضافية في العامين الأولين من الخطة 2011م و2012، لحل مشكلة الباحثين عن عمل وزيادة التوظيف بالقطاع العام وزيادة الرواتب والعلاوات والحوافز، بالإضافة إلى إنشاء مشروعات استثمارية جديدة في مجالات البنية الأساسية والمشروعات الاجتماعية، وتمّ تمويل الالتزامات المالية المترتبة عليها من فوائض الإيرادات النفطية. إلا أنّ هذه الزيادة في حجم الإنفاق الجاري أدّت إلى بعض الانحرافات التي تؤثر على التوازن المالي والاستقرار الاقتصادي في حالة الانخفاض في أسعار النفط كما هو الحال الآن. لذا فإنّ هنالك حاجة ماسة لاتخاذ المزيد من الإجراءات والسياسات اللازمة لاحتواء التوسّع في الإنفاق الجاري من ناحية، والعمل على زيادة الإيرادات غير النفطية من ناحية أخرى من أجل الحفاظ على الاستدامة المالية".

أولوية قصوى

أمّا البنك المركزي العماني فيرصد في تقريره السنوي الأخير حول الاستقرار المالي هذا التزايد في العجز وتبعاته ويذكر: "إنّ العجز المالي في عُمان استمر منذ عام 2014، لكنّه أخذ في التراجع خلال العامين الماضيين، واتبعت الحكومة تدابير لمعالجة الخلل المالي وتعزيز الانضباط المالي، واستهدفت التدابير المالية المتخذة ترشيد الإنفاق العام وزيادة الإيرادات غير النفطية"، وتابع أنّ "نطاق ترشيد الإنفاق العام الحالي محدود، وترجع هذه المحدودية بشكل رئيسي إلى فاتورة الأجور الحكومية الكبيرة نسبيًا وزيادة مدفوعات الفوائد بسبب الارتفاع الحاد في الدين الخارجي للحكومة، ومع ذلك، ينبغي أن يجري إحراز مزيد من التقدم في التمتين المالي بوتيرة أسرع، وكأولوية قصوى للحكومة العمانية لضمان الاستقرار المالي الكلي للسلطنة على المدى المتوسط ​​إلى الطويل".

لكن ما الذي يعيق وقف العجز وقد باتت جميع الأطراف تعلم أهمية سد فجوة العجز ووقف تراكم الديون؟ الإجابة ليست سهلة لأن تشعباتها قد تؤثر على كل جانب، والمسألة أنّ الميزان ذا كفتين؛ إحداهما الإيرادات والأخرى المصروفات؛ فإمّا أن تزيد الأولى أو أن تخفض الثانية. وزيادة الإيرادات هي هدف الخطط الاقتصادية بالدرجة الأولى، وهي ما تعمل على تحقيقها الوزارات المعنية في الحكومة، والجهات والبرامج التخطيطية المتوالية التي تبحث منذ سنوات عن آليات لتنفيذ هدف تنويع وزيادة الإيرادات لكيلا تبقى مرهونة بتصدير خامات النفط والغاز فقط.

لكن المؤشرات التي نتجت عن القطاعات المختارة لتكون أحصنة السباق الرابحة في التنويع الاقتصادي، مازالت دون المستويات التي راهنت الخطط عليها، وهو ما يجعل من الدعوات لتعديل هذه القطاعات وترك المسألة يحددها العرض والطلب والقدرات الإنتاجية والتنافسية للقطاعات دعوات ذات وجاهة حقيقية، ويجعلنا نثني على المرونة التي التزمت بها الحكومة، والاعتماد على القطاع الخاص كمشارك ليس فقط في التنفيذ ولكن أيضا في التخطيط.

وتتزايد التساؤلات في هذا السياق: كيف يمكن الاستفادة من ثمار قطاع بدون الإنفاق الجيد عليه؟ ولماذا ننفق المزيد عبر الاستدانة ونراكم الديون من جديد؟ وكم يمكن أن يتحمل القطاع الخاص من أعباء إنفاق على القطاعات قبل أن ينتظر عائد؟ وكثير غيرها من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي نخرج منها بأن رفع حصيلة الإيرادات من القطاعات غير النفطية مرتبط بمزيد من الإنفاق سواء الحكومي كما عودتنا.   

ضرائب ورسوم

والمصدر الآخر من مصادر الإيرادات الحكومية في العالم قد تؤثر على أطراف أخرى، لأنّها تتعلق بحصيلة الرسوم والضرائب. وهي كما تظهر ميزانية 2020 وقبلها ميزانية 2019 أصبحت عمودا أساسيا يعول عليه في الإيرادات العامة، وتخطط الحكومة لجمع ما يساوي تقريبا العجز المتوقع من خلال حصيلة الرسوم والضرائب، وتستند في رفع التوقعات الضريبية إلى الإجراءات التي اتخذتها ومنها تأسيس جهاز الضرائب واحتساب الأثر المالي للإجراءات المقدر البدء بتطبيقها خلال المرحلة المقبلة مثل (توحيد رسوم البلديات- تعديل بعض رسوم وزارة الصحة -وزارة القوى العاملة -وزارة الزراعة والثروة السمكية، حسب ما قالت وزارة المالية، ورغم أنّ المزيد من الضرائب هو أول العلاجات التي تنصح بها الجهات الدولية لزيادة الإيرادات إلا أنّ الحكومة تسعى لعدم إضافة أعباء على المواطن، لذلك أجلت لأكثر من مرة تطبيق ضريبة القيمة المضافة، كما أجلت لأجل غير مسمى إمكانية تطبيق ضريبة دخل على الأفراد.

طريق زيادة الإيرادات العامة إذن ما زال غير ممهد تماما ما لم يعبد بإمدادات من الإيرادات النفطية، وهو ما دفع البعض للعودة إلى المطالبة بمزيد من الاعتماد على النفط والغاز، لكن عبر زيادة قيمة مضافة بتصنيع منتجات وسيطة ونهائية وتصديرها عوضا عن تصدير النفط خام، وهذا التوجّه لم تستبعده الحكومة منذ فترة طويلة وتعتبر المشروعات الصناعية النفطية من أكبر الاستثمارات الحكومية القائمة وأعلاها تكلفة، وعلى رأسها مشروع لوى للبلاستيك والذي يتكلف نحو 6.5 مليار دولار، ومشروع مصفاة الدقم والذي يتكلف نحو 7 مليارات دولار، وهذا المنحى الذي اتخذته الحكومة كان يمكن أن يكون أكثر تشاركية إذا بادر القطاع الخاص للمشاركة في تمويله، لكن لسبب أو آخر هناك إمّا ضعف في رأس مال القطاع الخاص أو افتقاد لقوة التوحد لتمويل مشروعات عملاقة، وأيًا ما كان السبب فقد كان هذان المشروعان وغيرهما من المشاريع الاستثمارية سببا ثانويا في زيادة القروض الحكومية وهي قروض أو ديون تتحملها الشركات الحكومية المنفذة للمشروع لكنّها بالنهاية مضمونة من الحكومة العمانية وعليها التكفل بضمان سدادها، وهي بالنهاية لشركة حكومية.

وتدخل الشركات الحكومية كعامل آخر كان يفترض منه أن يرفع من قيمة الإيرادات الحكومية عبر ما يشبه التخصيص لكنّها كانت نتيجتها استمرار الاعتماد على الإنفاق الحكومي، ومازال دعم هذه الشركات يمثل أحد بنود الإنفاق السنوي.

وتبقى كل خيارات زيادة الإيرادات مرتبطة بالإنفاق.. لتظل المعادلة صعبة ويبقى البحث في إيجاد حلول للعرض أسهل من البحث عن علاج السبب الأصلي؛ والحل يتمثل في العجز ومن ثم الدين العام، لكن لا يجب أن يكون ذلك مصدر قلق، إذ يؤكد صندوق النقد الدولي: "ليس كل الدين سيئاً؛ فالاقتراض يمكنه بالفعل تمويل الاستثمارات الحيوية في البنية التحتية والصحة والتعليم وغير ذلك من السلع العامة، ويؤدي الاستثمار في الطاقة الإنتاجية، عندما يتم بشكل سليم، إلى تحقيق دخل أعلى يمكن أن يعوض تكلفة خدمة الدين"، ويرى الصندوق أنّه من المهم أن "تبذل الدول جهود أكبر للتأكد من أن الاقتراض السيادي يحقق الاستدامة المالية. فينبغي للمقترضين أن يحددوا خططاً دقيقة للإنفاق من المالية العامة ولعجز المالية العامة حتى يظل الدين العام على مسار يمكن الاستمرار في تحمله، وينبغي أن نتأكد من التزام كل البلدان بإعداد تقارير شاملة وشفافة عن الدين العام".

حل أزمة الديون

البيانات المتاحة تظهر أن هناك جزءا من الديون يحل موعد سدادها خلال العام الجاري منها صكوك سيادية بقيمة 250 مليون ريال، وإصدارين للسندات السيادية وقيمتهما معا 380 مليون ريال، أي أن هناك ما يقارب 1.45 مليار ريال ستذهب لسد المستحق بالإضافة إلى خدمة الدين خلال العام الجاري.

ويبقى السؤال ما هي إجراءات مواجهة تحدي العجز في 2020؟ والرد يأتي من البيانات الحكومية: "سوف يتم استغلال أية فوائض مالية ناتجة عن ارتفاع سعر النفط المحقق عن المعتمد في الميزانية لتغطية العجز"، وإنّ "العمل مستمر لمراجعة أوجه الإنفاق العام وزيادة الانضباط المالي بهدف الوصول إلى التوازن المالي في المدى المتوسط".

ختاما.. الدين ليس سيئا كما يُعتقد، لكن بكثير من التعاون وقليل من التنازل يمكن إيجاد حلول تضامنية اجتماعية يشارك فيها المواطن بدور فاعل ولو بشكل مؤقت لعبور أزمة الدين، ودليل ذلك تجارب بعض الدول التي لاقت دعما من مواطنيها عبر المساهمة الطوعية في تنفيذ مشروعات عملاقة قد لا تعود عليهم مباشرة بعائد، لكنّها ستجنب أجيالا قادمة من أبنائهم تبعات الدين.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة