الوجودية بين "غثيان" سارتر و"شحّاذ" نجيب محفوظ (1-3)

...
...
...
...

 

أ.د. يوسف حطّيني| أكاديمي وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

 

أولاً ـ تمهيد:

تبدو التصورات الفلسفية عند الفرد أكثر تعقيداً مما هي في النتظير الفلسفي، فالتنظير الفلسفي مؤطر بمنهج يضمن شيئاً من عدم التداخل بين المذاهب، أمّا الفرد، سواء أكان كائناً بشرياً، أم شخصية سردية، فهو نتاج فلسفات متداخلة، يعيشها متزامنة أو متتابعة، دون أن يدرك المآلات التي ينتهي إليها؛ لذلك ينبغي الحذر في التعامل مع التحليل النقدي حياله؛ إذ ليس من المستحسن أن نتحدث مثلاً عن شخصية وجودية أو عبثية، وإنما عن ملامح وجودية أو عبثية في شخصية ما؛ فالشخصية عرضة لتغيّرات مستمرة، لأنها ابنة الوجود، وابنة قلقه ومجهوله، وابنة أسئلته الكبرى التي يحار العقل في استكناه معناها.

 

في هذا البحث نحاول أن نعرض رؤيتنا لملامح الشخصية الوجودية في روايتين شهيرتين، كتبهما علمان من أعلام الأدب العالمي، هما روايتا "الغثيان(1)" لجان بول سارتر (1905ـ 1980) ، و"الشحاذ(2)" لنجيب محفوظ (1911ـ2006). وقبل أن نغوص عميقاً في تحليل الروايتين نقدّم بمقدّمة عامة عن الوجودية، وتمظهرها في ما كتبه الرجلان من أعمال أدبية.

 

تقوم الوجودية أساساً على فكرة الحرية، فالإنسان في الفكر الوجودي حرٌّ وصاحب كيان، فإذا كان الأب الروحي للفلسفة الوجودية الدانماركي سورين كيركيغارد (1813ـ 1855م) يَفترض أن كل فرد مسؤول عن إيجاد معنى لحياته، فإنّ الوجودية انطلقت من هذه الفكرة الأساسية، لتصبح مذهباً أدبياً، ينتصر لحرية الإنسان التامة في التفكير بلا قيود، خاصة بعد أن انخفضت قيمته الجوهرية إثر انتشار الحروب والنزاعات المدمّرة منذ بدايات القرن العشرين؛ فكان اهتمام الوجودية بالإنسان روحاً وجسداً، والثقة بقدرته على صناعة حياته، وتحقيق وجوده الخاص بملء حريته، ردَّ فعل مباشراً على الحيف الذي أصاب قيمته في ظلّ تلك الظروف. وباتت قيمة الإنسان في العرف الوجودي مرتهنة بـ "مجموع الوجود الذي يتصوره، ووجوده هو مجموع ما حققه(3)".

 

ثانياً ـ حكايتا "الغثيان" و"الشحّاذ":

يعد جان بول سارتر واحداً من أهم من نقلوا الوجودية إلى العالم العربي؛ إذ لم يكتف بالتنظير للوجودية بل لجأ إلى المسرح والرواية من أجل نرسيخ مبادئها، فقد قدّم للقارئ بضعة عشر كتاباً، اشتهر منها في عالمنا العربي: "الوجودية مذهب إنساني"ـ 1946م، و"الوجود والعدم"ـ 1943م، ومسرحية "الذباب"ـ 1943، ورواية "الغثيان"ـ 1938م، وأثّرت هذه الكتب، والفلسفة التي تدعو إليها، تأثيراً كبيراً في الأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

 

أما نجيب محفوظ الذي اطلع على منابع الفلسفة الوجودية في النصوص الفلسفية والإبداعية، فقد كانت له رؤيته الخاصة، وأسئلته الملحّة عن الإنسان والوجود، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد أن رواياته جميعاً اشتغلت بالإنسان وقلقه، ودعت إلى حريته، وأن نؤكد أيضاً أن ثمة تقاطعات لافتة بين رؤى شخصياته الروائية، وبين رؤى الوجوديين، خاصة في روايات (القاهرة الجيدةـ 1945) و(بداية ونهايةـ1949) و(السمان والخريف ـ 1962) و(الطريق ـ1964) و(الشحاذـ 1965)، و(رحلة ابن فطومة) 1983. ولعلّنا نشير هنا إلى أن ثمة روايات لا تصنف ضمن الإطار العام للروايات الوجودية، ولكنها تنطلق من رؤية وجودية شاملة، من مثل رواية (أولاد حارتنا ـ1967) التي يمكن أن نصنّفها رواية رمزية من حيث  بناؤها الداخلي، ولكننا نتلمس في رؤيتها العامة بحث الإنسان، وربما إخفاقه في البحث، عن معنى الوجود.

تعتمد الحكايتان في روايتي (الغثيان) لسارتر، و(الشحّاذ) لمحفوظ على تأملات شخص وحيد، منعزل بجسده، أو بفكره، عن الآخرين، سعياً إلى محاولة فهم ما يدور حوله، للتخلص من غثيانه، كما نرى عند الأول، أو من عذابه كما نرى عند الثاني.

 

في رواية "الغثيان" يقوم الرجل الوحيد "أنطون روكتان" برحلة إلى "بوفيل" بغرض تأليف كتاب عن الماركيز دور رولبون، وفي جو الوحدة والعزلة النموذجي الذي يعيشه تتعربش ذكرياته على شجرة مخيلته الخصبة، فيقرر أن يكتب يومياته، ويدوّن كلّ شيء مدعوماً بذاكرة تعود الماضي، وعينين تراقبان الحاضر، وتكتبان تفاصيله، حتى إن تشابهت أو تكررت في بعض الأحيان؛ فالمهم أن يكتب ما يراه وما يحس به؛ ليتخلص من ضغط تفكيره، ومن غثيانه، غير أنه بمرور الوقت يألف غثيانه الذي  يصبح جزءاً من حياته.

وعلى الرغم من أن الحب شكّل نقطة مضيئة في حياته؛ فإنه شكّل نقطة فاصلة أيضاً في جعله وحيداً، إذ صارت هذه الوحدة، بعد افتراقه عن حبيبته آني، متّكأ لتأمل علاقتهما السابقة، أو لطرح أسئلة جديدة بشأنها: عما تفعل بعيدة عنه، ومن ستقابل غيره؟ أو متكأ للهرب من سأم مراقبة الناس ورصد الانطباعات عنهم.

 

لقد كان تدوين المشاهدات والانطباعات هو قرار أنطون روكتان، وهو عذابه أيضاً، يكتب ليتخلص من غثيان يفاجئه في لحظات غير متوقعة، وفي مواقف غير متشابهة، وحين يشعر أنه تخلص من غثيانه (وهو شعور مؤقت) يتوقف عن الكتابة، ولينطلق من ثم في رحلة جديدة، بعد أن قرر نهائياً ألا يكتب عن حياة الماركيز دور رولبون، وأن يجعل اليوميات التي كتبها رواية، دون أن يوحي ذلك بنهاية الغثيان، فالأسئلة ما زالت التي تدور في ذهنه، تبحث عن إجابات جديدة، ويوميات أخرى، مرشحة أن تضعه أمام غثيان جديد، في دوامة لا تنتهي. فإذا كانت لحظة الكشف تتجلّى في سياق ما، وتكشف عن وميض إجابة، فإن ذلك سرعان ما يختفي، ليعود روكتان ضائعاً منسيّاً: "والآن.. حين أقول أنا يبدو لي ذلك أجوف، إنني لا أتوصل بعد جيداً إلى أن أحسّني، لفرط ما أنا منسيّ(4)"، فالحقيقة التي تتجرد من غوامضها أمامه سرعان ما تحتجب بشكل عبثي، "وفجأة تصفرُّ الأنا وتصفرُّ، وينتهي الأمر، وتنطفئ(5)"، وفجأة يكتشف بطل الغثيان أنه واهم، وأن مفتاح كينونته لغز دائم: "إني وجدت مفتاح الكينونة، مفتاح غثياناتي، مفتاح حياتي نفسها، والواقع أن كل ما استطعت أن ألتقطه فيما بعد يتلخّص في هذه العبثية الأساسية. عبثية: كلمة أخرى؛ إنني أتخبط تجاه الكلمات(6)".

 

أما رواية "الشحاذ" فتبدأ حكايتها من عمر الحمزاوي، وهو يشكو لصديقه الطبيب إحساسه بالضياع وفقدان الرغبة بالحياة والعمل، ولا يفرح بخبر حمل زوجته، بل يترك زوجته وابنتيه، ليبحث عن إكسير الحياة، فيذهب مع صديقه الصحفي مصطفى إلى الملاهي الليلية، ويتعرف إلى مارغريت التي تسافر بسرعة قبل أن يتذوق شهدها، ثم إلى وردة التي يخصص لها شقة ويشتري لها ثياباً، ويعيش معها، ويحاورها، ويحاور غيرها، حول معنى الحياة وعن إيمانها بالله، وغير ذلك من الأسئلة الوجودية التي لا تلقى من المستمعين غير الدهش.

 

عاش عمر الحمزاوي وحيداً في ازدحام العائلة، وفي ازدحام النساء اللائي عرفهن بعد وردة، منفصلاً عن روحه وجسمه، فينصرف إلى ما يشبه التصوف، معلناً أنه شفي مما يعانيه/ وقد امتزج هذا الشفاء الرومانسي المؤقت بالطبيعة المفتوحة التي أتاحت له مزيداً من التأمل؛ وهو إذ يسهر في الملهى الليلي، ويخرج وحيداً إلى الطريق الصحرواي، يشعر بسعادة غامرة في تأمل الكون بحثاً عن اليقين: "وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة، وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة (...) وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر من السلام والطمأنينة(7)"،

غير أنه بعد أن تلد زوجته طفلاً (تسميه ابنته سمير)، ويجتمع شمل العائلة مؤقتاً؛ ينسحب من جديد إلى وحدة مطلقة، باحثاً عن القوة الكامنة وراء الحياة، على الرغم من أن صديقه عثمان يؤكد له أنه لن يستطيع إيجاد معنى الحياة وهو يعيش خارجها.

 

وعند النظر إلى البنيتين الحكائيتين فإننا سنميل إلى ترجيح كفة نجيب محفوظ الذي ينسج حكاية بالدرجة الأولى، ويحمل الشخصية الفنية ملامح الأزمة الفكرية التي يريد التعبير عنها، في مقابل رواية ذهنية يصوغها سارتر، ويقدّ شخصيتها الرئيسة، لتعبّر عن الفكر الذي يسعى إلى ترسيخه. وما هذا الترجيح إلا لأن الرواية سرد فني يعبّر عن أيديولوجيا، وليست أيديولوجيا تلبس بالرغم منها ثوباً فنياً. غير أننا لن نفصل في هذا الأمر لأنّ عنوان بحثنا سيحيلنا إلى البحث عن ملامح الوجودية في الروايتين.

 

ثالثاً ـ الشخصية الوجودية بين الفاعلية والانكفاء:

ثمة تشابهات كثيرة كثيرة بين كل من أنطون روكتان بطل رواية "الغثيان"، وعمر الحمزاوي بطل رواية "الشحّاذ"، فكلاهما عند التحقيق (شحّاذان)، يتسولان الوصول إلى حقيقة الوجود، وهما بطلان إشكاليان مشغولان بالأسئلة الفلسفية الكبرى، ويخوضان رحلتي البحث عن أجوبة لها، ولكلّ منهما حياته الخارجية الظاهرة، وحياة أخرى باطنة يعجز الآخرون عن إدراكها، حياة باطنة شغوفة بالبحث عن الحقيقة عبر العزلة والتأمل والبدائل المختلفة. وإذا اختلفت طرق البحث ووسائله بينهما، فإن المؤكّد أنّ أياً منهما لم يستطع الوصول إلى ما يبحث عنه،  لتبقى أسئلتهما مفتوحة إلى الأبد.

 

تُنَظِّرُ الوجودية لانخراط الفرد في المجتمع، ولمسؤوليته الحرة في الوجود، حتى يحقق كينونته في وجود متحقق بكينونة أفراده، وترى أنّ "الإنسان، لما كان عليه أن يكون حراً، فإنه يحمل على عاتقه عبء العالم كله، إنه مسؤول عن نفسه بوصفه حالة وجود(8)"، غير أننا حين ندقق في كثير من الشخصيات الوجودية التي تظهر في أثواب سردية، نجدها تميل إلى الهرب لا إلى المجابهة، وتنكفئ على ذاتها، بعد أن تكتشف أن المجتمع الذي تنتمي إليه أكثر فوضى من إمكانية التآلف معه، فتبحث عن سر النظام في الكون، وتكاد تكون نماذج  لـ اللامنتمي الذي عرفه كولن ولسون بأنه: "الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة من أساس واهٍ، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذّراً من النظام الذي يؤمن به قومه(9)".

 

ونلمس مثل هذا الهرب عند روكتان بطل "الغثيان(10)" الذي يقرر أن المدينة هي التي تبدأ بالتخلي عنه أولاً، فيهرع إلى ذاته، ويكشف في سياق آخر أن وجوده بين مجموع الناس في الماضي، كان شيئاً لا معنى له، وأنه قضى سنوات من حياته في السأم. يقول روكتان: "ثم استيقظتُ فجأة من سبات ستة أعوام، وبدا لي التمثال كريهاً بليداً، وأحسستُ أنني كنتُ سئماً سأماً عميقاً، ولم أكن أستطيع أن أفهم لماذا كنتُ في الهند الصينية، ما الذي كنت أفعله هناك؟ لماذا كنت أتحدث مع هؤلاء الناس(11)".

 

ويقوده مثل هذا السأم إلى التشاؤم، والسوداوية، فيحبُّ "سماء الأمس، سماء ضيقة، مسوّدة بالمطر(12)"،  ويرى السواد البيئة المثلى لتجلية المبهم، فيقول: "وحين يسود الظلام، سأخرج أنا والأشياء من الغموض(13)"، وتظهر له الكنيسة كتلة شيطانية بيضاء(14)، بل إن تشاؤمه يعظُم في تخيّله، وتنفتح صورته على غرائبية تنطلق من الواقع، وتحيل إلى خيال مقزّز: "وتركت ذراعي تمر على خاصرة صاحبة المطعم، فرأيت فجأة حديقة صغيرة ذات أشجار واطئة عريضة، تتدلى منها أوراق ضخمة يغطيها الشعر. وكان ثمة نمل يعدو في كل مكان...(15) ".

 

كما نلمس ذلك السلوك النكوصي عند عمر الحمزاوي الذي ينكفئ على نفسه، ويشعر بأنه مريض مرضاً غامضاً، هو سأمه من كل شيء، وعدم قدرته على التوافق مع الناس والعمل، يقول عمر الحمزاوي لصديقه الطبيب واصفاً حالته: "ليس تعباً بالمعنى المألوف، يخيل إلي أني ما زلت قادراً على العمل، ولكني لا أرغب فيه (...) لا أريد أن أفكر أو أن أشعر أو أن أتحرك.. كل شيء يتمزّق ويموت(16)".

 

كما يصرح في موضع آخر من الرواية بقوله: "قتل الضجر كلّ شيء(17)"، وينتظر معجرة تحوّل "الرطوبة اللزجة إلى عاصفة هوجاء(18)"، وهو بذلك ينتمي إلى اللامنتمي من خلال زهده بالعمل والأسرة، وتقززه من أصدقائه، ومن بيته الذي "لم يعد بالمأوى المحبوب(19)"، ومن نفسه ذاتها: "يا إلهي. إنهما شيء واحد. زينب والعمل. والداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب. هي رمزه. هي المال والنجاح والثراء، وأخيراً المرض. ولأنني أتقزز من كل أولئك فأنا أتقزز من نفسي، أو لأنني أتقزز من نفسي فأنا أتقزز من كل أولئك(20)".

 (يتبع)

...........

هوامش:

  1. جان بول سارتر: الغثيان، ترجمة: د. سهيل إدريس، دار الآداب ، ط 4، 2004.
  2. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مطبوعات مكتبة مصر، الفجّالة، ط7، 1982. (طبعت أول مرة عام 1965)
  3. جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، الدار المصرية، القاهرة، ط1، 1964، ص38.
  4. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص236.
  5. المصدر نفسه، ص237.
  6. نفسه، ص181.
  7. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص120.
  8. جان بول سارتر: الوجود والعدم (بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية)، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، ط1، 1966، ص873.
  9. كولن ولسون: اللامنتمي، دار الآداب، بيروت، ط5، 2004، ص5.
  10. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص236.
  11. المصدر نفسه، ص11.
  12. نفسه، ص23.
  13. نفسه، ص23.
  14. نفسه، ص64.
  15. نفسه، 84
  16. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص8.
  17. المصدر نفسه، ص90.
  18. نفسه، ص44.
  19. نفسه، ص53.
  20. نفسه، ص50.

تعليق عبر الفيس بوك