علي بن سالم كفيتان
جندت قلمي ومحبرتي لوطن احتواني عندما كنت شريدا خائفاً تتقاذفني نوائب الدهر، فبالرغم من الخيرات التي كان يختزنها في أحشائه إلا أنّه ظل جريحا وبقيت أنا ذلك الإنسان الحائر فبكيت كثيراً على الفقد، وبحثت عن لقمة العيش في الشتات واتخذت القرارات الصعبة والمريرة التي آلمتني وظل أثرها غائراً في نفسي طوال عمري، فخضت ثورات اكتشفت فيما بعد أنّها سرقت أحلامي وهاجرت على مراكب شراعية أخذتني بعيداً فعانيت من ندوب جهلي وتحملت نظرات الشفقة والإحسان ودفنت بقية كبريائي هناك، وتسكعت بين الدروب أحمل هوية غير هويتي ولبسا غير لباسي، أخلط الليل بالنهار كأجير يلهث خلف الروبيات الهندية وأبلع لساني عندما أسأل عن اسم وطني الجريح.
شاهدت الأمم تتقدم والنفط يتدفق من تحت أقدام البدو وسألت نفسي ألا يوجد نفط في بلادي؟ ولم أجد إجابة في ذلك الزمن المرير، كم يؤلمني ذلك المكتوب القادم من قريتي البعيدة أنّ أمي ماتت بالجدري وأنهم دفنوها دون أن أراها وهي التي ركضت خلفي صبيحة هجرتي ومنحتني أغراضا جمعتها بعد أن حزمتها في غطاء رأسها ثمّ حضنتني للمرة الأخيرة وقبلت رأسي وعادت تبكي إلى القرية... عدت مسرعاً إلى تلك الخزانة القديمة ونبشت في أمتعتي لأجد تلك القطعة من ثوبها التي لم أغسلها طوال ثلاث سنوات فعندما اشتاق إلى الوطن أشم رائحة أمي فماتت أمي وبقي وطني أتنفسه كل يوم.
ارتديت ثياب الآخرين رغم أنّها ليست على مقاسي وحاولت مرات كثيرة وضع الغترة والعقال ونظرت إلى نفسي في المرآة وقلت هذا لست أنا.. عدت إلى عمامتي رغم ثقوبها الكثيرة فوجدت فيها نفسي فعندما تعتلي رأسي تمنحني الكبرياء المفقود في الغربة. سألت في إحدى مكاتيبي عن جملي وهل ناصر ابني يقوم برعايته والاحتطاب عليه مع أعمامه، فجاءني الرد بأنّ الجمل تمّ بيعه لفك رهن المزرعة الصغيرة التي تمتلكها العائلة، فقد أخذت أجرة سفري من أحد التجار ورهنت مزرعتي لمدة عام فمضى العام وبيع الجمل لإنقاذ المزرعة التي جف ليمونها وبارت أطرافها بعد رحيل أمي.
سمعت من المارة في دهاليز الغربة أنّ وطني عادت له الحياة وأنّ شاباً من نسل السلاطين اعتلى سدة الحكم في بلادي ركضت مسرعا إلى العم سيف في السوق فوجدته منكباً على المذياع وحوله جموع من أبناء جلدتي شققت الصفوف حتى صرت أسمع خطاباً قادما من صلالة في أقصى الجنوب، حيث قال جلالة السلطان "سأجعلكم تعيشون سعداء" ووعد ببناء الوطن الجريح ومن لحظتها حزمت أمتعتي وبحثت عن مركب يقلني إلى عُمان.
طوال نصف قرن ظل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- باحثاً عني فوجدني مرة في أصقاع الجبال ومرة على تخوم الصحراء وأخرى على الجزر النائية وأمر وزراءه بأن يمدوا لي سبل الحياة مهما كلف الثمن، ورفض كل المقترحات بضم أهل الحلل والقرى والجزر الصغيرة إلى المدن الكبرى فهو يعلم محبتي لوطني مهما كان الجبل كالحاً والصحراء مقفرة والجزيرة بعيدة في لجة البحر.
عدت إلى وطني ولم أعد أبكي على الجمل فقد اقتنيت ما هو خير منه وبحثت عن خنجر جدي ووضعته مجدداً على خاصرتي بعد أن اعتلت عمامتي هامتي وطاولت الجبال النائفة، وصار وطني له اسم موحد وزي موحد وعلم جديد واعترفت الأمم بكينونتي فكان ذلك أعظم هدية قدمها صاحب الجلالة- حفظه ورعاه- لشعبه.
فلطفا بوطنكم ولا ترسموا صورة غير حقيقية، وابقوا على الوجه الناصع الذي رسمه صاحب الجلالة- حفظه الله ورعاه- ولطفاً بمن تولى أموركم العامة، فالجميع ليسوا سواء فما أحوجنا في هذه المرحلة للتكاتف والتعاضد بعيدًا عن التشكيك والاتهام، فلا يعقل أن يكون الوطن حقيبة سيسرقها البعض، فنحن الوطن، والمال زائل وقادرون على السير على نهج القائد المفدى مهما كانت المحن بإذن الله تعالى.
حفظ الله عُمان، وحفظ جلالة السلطان المفدى.