حداثة ضد الله.. عبادة العلم المحض (2-2)

 

محمود حيدر| مفكر وباحث في الفلسفة | لبنان

 

يظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدس لدى "العَلْموية" بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية. نعني بذلك نظرها الى الانسان كشيء زائل ككل الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها سوى وهم محض.

لن يقبل الملحدُ الأمرَ القدسيَّ لأنه أمرٌ واقعٌ فوق قدرته على القبول والاستقبال. وما ذاك إلا لاستغراقه بعالم الموجودات الحسِّية وامتناعه من استشعار الجود الإلهي الموجد لهذا العالم. وحده الإيمان بالأمر القدسي ما يحقق الجمع بين ما هو عقلاني ينتسب الى عالم الطبيعة وما هو غير عقلاني مصدره عالم الغيب. أما الداعي الى ذلك، فلأن هذا الإيمان يختزن في نفس الآن بعدين متلازمين: بعدٌ يجري إدراكه بوساطة المفاهيم الذهنية، وموضوعية العالم الطبيعي، وبعدٌ يتجاوز نطاق المفاهيم والأفكار من دون أن يخرج بالضرورة على هيئة مفهومية. ذلك ما نعنيه بالأمر القدسي الذي يتأبَّاه الملحد فلا يفلح بإدراكه، فضلاً عن استحالة عيشه. تهافت الملحد وتدانيه أوقفه عند عالم الحس، فلا يسعه أن يرى الى القدسي كحقيقة واقعية، وإنما كوهم محض. من أجل ذلك وبسببه لا يقدر الملحد على تقصِّي ما يبثه القدسي في وجدان المتصل به على نشأة الاعتراف والإقرار والقبول والإيمان.

كل كلام على ماهية الإيمان بالمقدس يحيل الى المفارقة. فالمقدس بما هو مقدس مستقلٌ بذاته، مغايرٌ لكل ما ليس من طبيعته. ذلك بأنه متعلقٌ باليقين القلبي لا بالمفاهيم العلمية التجريبية. فلكي يُفهم القدسيُّ على ما هو عليه في حقيقته، لا بد أن يعاش من جانب المؤمن به ومقتضى عيشه ان يكونه ويتمثل قيمه؛ كأنْ ينظر الى قداسته بالرضا والتسليم، ثم أن يتعقُّل ما هو فيه ليكون فهمه له حاصل نية ونظر وعمل.

كان عالم الانتروبولوجيا ومؤرخ الأديان ميرسيا إلياد، ينفي ان يكون المقدس مجرد مرحلة من مراحل الوعي البشري، بل يعتبره عنصراً مكوِّناً لبنية هذا الوعي. واكثر من هذا فإنه يعتبر وجود العالم كله حصيلة جدلية لتجليِّ المقدس وظهوره. وكان يلاحظ أن اقدم صورة لعلاقة الانسان بعالمه هي تلك العلاقة المشبعة بالمقدس الذي يفيض بمعانيه على كينونة الإنسان، وتكون ممارسته له في حد ذاته عملاً دينياً.      [ Eliade La Nostalgie des origins: Méthodologie et histoire des religions, ed Gallimard 1971. P 7]

 إن هذا التأصيل الجوهري لمكانة المقد  في الحياة البشرية، يفضي الى حقيقة ان الانسان - بوصفه انساناً - هو كائن ديني. والتنظير الفلسفي منذ بداياته الاولى كان ممتلئاً بسيلٍ وافر من الدلالات والرموز والمعاني ذات المغزى الديني. واذا كان الانسان لا يستطيع العيش الا في عالم ذي معنى، فالإنسان المتدِّين على وجه الخصوص، هو الأكثر توقاً الى العيش في محاريب القدسي، او الى الهجرة نحوها بلا كلل. وما ذاك إلا لأن هذا العالم المتسامي، الذي يستمد جاذبيته من الغيب، هو بالنسبة الى المتديِّن عالمه الواقعي والحقيقي. وهو الذي يمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي ينتظرها وإن لم تأتِه بعد. ولأن المتديِّن لا يجد نفسه إلاّ في محل ممتلئ بجلال المقدس وجماله،  فمن أجل ان يفتتح بهذه الإقامة "البرزخية" سبيلاً الى السكن في عالم الألوهية الفائض باللطف والأمن ولذة القرب. اي انه يرجو الخاتمة في المكان الأعلى طهراً وتقدسُّاً، مثلما كان من قبل كائناً طهرانياً في علم الله وحضرته المقدسة.

في السياق الرؤيوي نفسه، كُثًرٌ ممن نقدوا تهافت الفكرة الإلحادية، لاحظوا أن تجربة الإحساس بالقداسة لدى الناس تأسست على عدم انفصال الرموز لديهم (أي الممارسات العبادية) عن الحقيقة التي تدل عليها تلك الرموز. من أجل ذلك توفرت للرمز الديني القدرة على إدخال العابدين في عالم القداسة..

فالمؤمن، وإن لم يدرك كُنْهَ السرِّ الذي تنطوي عليه قدسية ما يؤديه تجاه ما يؤمن به ويتوجه إليه، إلا أنه محمول على اليقين بالأثر المترتب على الإقبال عليه. بل إنه يمضي في التسليم للغاية المقدسة الى الحد الذي يتبدد فيه السؤال عن السر الكامن في مقام الغيب.

 

وهم التناقض بين الإيمان والعقل:

قد يكون الادعاء الأكثر رواجاً في الاحتجاج الإلحادي كامناً في شُبهة التناقض بين الإيمان والعقل. وهذا عين ما صوَّبت عليه العلمنة على مدار أزمنة الحداثة بغية إقصاء الدين، وإحلال التصور العلموي المحض كمعيار نهائي لفهم الحضارات الإنسانية.

 تلقاء هذه الشبهة لا يلبث ان يُطرح السؤال حول المعنى الذي تُستعمل فيه كلمة "عقل" حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها - كما هو الحال في الغالب اليوم - أن تُطلّق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني.. أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير من الحضارات البشرية ولا سيما الحضارة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟

جاءت أطروحة التناقض بين العقل والإيمان الديني كتمثيل يساجل أهل الأطروحة، ليبيِّن على مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. وسيأتي من فضاء الغرب نفسه من يجيب أن الإيمان لو كان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على ان يكون لديه هماً أقصى. أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحدُه من يمتلك ملكة "العقل الخلاَّق" ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بفتح البـاب العالي على الوصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته. وما نعنيــه بالعقل الخلاَّق هـو العقــل الذي يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابية إلى ما وراء ذاته. أي الى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر، أن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً أي مقدساً ونبيلاً. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققاً للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة هم أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الإنجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما في داخل الآخر (بول تيليتش – بواعث الإيمان).

لا يبدو ان حداثة الغرب قد استفاقت بعد من سحر "العلموية". ولأنها استهلت رحلتها كحداثة ضد الله، ولم تتنَّبه بعد الى عاقبة أمرها، انتهت الى حداثة فائضة أغرقت الانسان المعاصر في لجة اللاَّيقين. كل هذا راجع – كما تلاحظ عالمة الاجتماع الأميركية كارين آرمسترونغ - الى أن ثمة خواء ثاوياً في قلب الثقافة الحديثة. لقد امتلأ ديكارت رعباً – كما تقول - من فراغ الكون لمّا لاحظ كيف سيتحول الكائن البشري الى ان يمسي المتبلِّد الحي الوحيد في كون هامد. كذلك فعل توماس هوبس لما توهَّم الله منسحباً من العالم. أما نيتشه الذي امتلأ بالعدم حتى الرمق الأخير فقد انبرى يعلن موت الإله. وما كان مرد ذلك كله إلا عن السَّخَط المتأتِّي من أعماق الفكر، على حداثة راحت تهوى في عتمة العدمية وتحول انسان الى كائن بلا روح.

في منتصف القرن العشرين المنصرم كان اللاهوتي الإنجيلي الألماني ديتريش بونهوفر يتوقع المشهد الذي ستؤول إليه مآلات الحداثة ويقول: "لقد صار سيد الآلة عبداً لها، وثارت الخليقة ضد بارئها، وانتهى التحرر المطلق للإنسان الى الدمار الذاتي.

 

تعليق عبر الفيس بوك