مؤسساتنا وقانون باركنسون

 

د. صالح الفهدي

في عام 1955 كتب سايرل نورثكوت باركنسون في مستهل مقالة نُشرت في صحيفة إيكونومست البريطانية: "يُلاحظ عادة أنَّ العمل يتضخَّم لكي يملأ الوقت المتاح لإنجازه". وعُرفت هذه الفكرة باسم "قانون باركنسون"، هذا القانون يُقدِّم تفسيراً للتأجيل والتأخير والتباطؤ الذي تشهده الكثير من مؤسساتنا الحكومية، بل وامتدَّ الأمر إلى بعض المؤسسات الخاصة التي ظننا أنها تنتمي إلى قطاعٍ يتميَّزُ بالمرونةِ والسرعةِ في اتخاذ القرار، وإنجاز المصالح!

ضرب باركنسون مثلاً على عبارته التي أضحت قانوناً بعدد السفن في البحرية البريطانية الذي انخفض في الفترة ما بين 1914 و1928، صاحَبَه تزايد لعدد الموظفين الإداريين بنسبة (78)%، مع انخفاض الأسطول البريطاني بنسبة (0.68)%، وهذه الزيادة لا علاقة لها بحجم العمل، لكنَّما الإشكالية كانت -حسب قانون باركنسون- تكمنُ في عدم تحديد مدة أطول لإنجاز الأعمال فالعمل الذي يستغرقُ ساعةً، امتدَّ ليستغرقَ يوماً كاملاً! وإذا طبَّقنا المثل نفسه على بعض المؤسسات لدينا والتي تفرَّعت منها كيانات أُخرى كمثل الوزارة الواحدة التي تم تشكيل هيئةٍ مُستقلةٍ عنها، أو أُخرجت من صلبها وزارةٌ أُخرى، لا مراءَ أنها أُنشأتْ –في نظرِ صاحب القرار- من أجلِ الارتقاءِ بالعمل، لكن الذي حدث هو بالضبط نفس ما ضرب عليه باركنسون المثل، فقد زاد عدد الموظفين في هذه الهيئات أو الوزارات، بالرغم من أنَّ العمل قد انخفض، وزادت الموازنات على نحو كبيرٍ مُقارنةً بوضع الوزارة الواحدة التي كانت تحتوي أعمال ومخصصات الهيئة أو الوزارة التي خرجت منها.

المشكلة الحقيقة في نظر باركنسون تكمنُ في الوقت المُحدد للعمل، وهذا بالفعلِ ما التفتت إليه بعض المؤسسات وعالجته علاجاً جذرياً، ففي زيارة لي إلى وزارة البيئة والشؤون المناخية بدعوةٍ من معالي الوزير اطَّلعتُ فيها على الوقتِ الطويل الذي كانت تستغرقُه التصاريح البيئية سابقاً، والتكاليف المادية الباهظة التي يستهلكها هذا الروتين الطويل العقيم، وما آلت إليه الأمور حالياً من سرعة إنجاز التصاريح البيئية في وقتٍ قياسي، حتى أن التصاريح التي كانت تأخذُ أشهر طويلة أصبحت تمنحُ في وقت لا يتجاوز الدقائق، وتوفير الوقتِ هذا يعني توفير الأموال المُهدرةِ من قِبل المؤسسات الخاصة والوزارة ذات الاختصاص.

إنَّ العملية برمَّتها مرهونةً بالقرار السليم، والطرق التي يتم تنفيذ القرارِ بها، فقد سُنَّت القوانين لتُنظِّمَ مصالحَ النَّاس، وتيسِّر وسائل معيشتهم، وأحوالهم، لا لتعيقها، وتعقِّدها، غير أنَّ الكثير من المؤسسات حكوميةً أو خاصَّة لا تزالُ تسوِّرُ المصالح بخليطٍ مُعقَّدٍ من شِباكَ شائكةٍ أسمته "قوانين" حتى أصبحَ الموظفونَ أنفسهم يجهلونَ مُبرراتها..! لقد أضرت هذه العُقد بمعايش النَّاس، وعطَّلت مصالحهم، ولا علاج لذلك إلاَّ بالمراجعة الأمينة والصادقة لهذه القوانين المُعيقة كسبيل إلى اختصار الوقت إلى الحدِّ الأدنى.

ينطبقُ قانون باركنسون على الكثير من المؤسسات التي تؤجِّل الأعمال، وتؤخِّرُ المصالح، والسبب في ذلك أنها لم تنتبه إلى تقنين الوقتِ لتطبيق القوانين، وتركت مصيرِ الأمر بيد الموظف سواءً كان مُخلصاً أو مُهملاً، نشيطاً أو متقاعساً، رائقاً أو متكدراً، وهذا ما عانى منه أصحاب المصالح لعقودٍ طويلة!! في حين أوجدت بعض المؤسسات بتوظيفها لتقنيات العصر، واستثمار أدواته الحلول الناجعة التي سحبت القرار من الموظف إلى النظم التقنية، فلا يرتبط إنجاز المصلحة بمزاج الموظف ولا بأهوائه ولا بعلاقاته وإنَّما بالوقتِ الذي قُنِّنَ زمنياً لأداءِ ذلك العمل. ينصُّ قانون باركنسون على أن إنجاز العمل رهينٌ بالوقت الذي يُمنحُ لإنجازه، فإذا طال الوقت تمدَّد العمل، وإذا قصر تكثَّف العمل، وهذا يعني أنك إن أوكلت إلى موظف ما عملاً لا يستغرق ساعة، لكنك منحته أسبوعاً، فلن ينجزه في ساعة ولا في يوم وإنما سيطول معه إنجاز العمل أسبوعاً بحاله!! أمَّا لو كلَّفته بالعمل نفسه لساعةٍ فقط، فسينجزهُ في ساعة!

إنَّ الفساد لا يعني اختلاس المالِ العام وحسب بل وأعظمُ منه اختلاسُ"الوقتُ العام" الذي يثقلُ خُطى الأُمم، وكأنها تنقلُ خُطاها في وحل، فيكون التغيير بطيئاً، ثقيلاً. اختلاس "وقت العمل" هو أعظم إثماً، وأشنعُ جريرة من اختلاس المال لأنَّ الوقتَ يعني عمر الشعوب، فليكن صنَّاع القرارِ أذكياء بمُعالجةِ هذا بذاك: اختصار الوقتِ بزيادة المال، على سبيل المثال فإنَّ استخراج ملكية أرضٍ يستغرقُ أسابيع، في حين أنَّ دفع مبلغ معيَّن من الرسوم للمعاملات الخاصة ينجزها في أقل من ساعتين!

أمَّا أن ينجزَ تصريح في ثماني سنوات مرَّ على ثمانِ وزارات فذلك تعطيلٌ ليس لمصلحة إنسان وإنِّما لتنمية وطنٍ بأكمله، وفتحٌ لأبوابِ الفساد!! يقول د. غازي القصيبي رحمه الله في كتابه "حياتي في الإدارة" قال لي مواطن: كلَّما عقَّدتم في القوانين، كلما أوجدتم باباً للرشوة". والتعقيد أساسهُ التطويلُ والتأجيلُ والتسويف والإبطاءُ وهذه كلَّها معنية بالوقت. ناهيكم عن المشاريع التي تُركت بسبب الروتين الزمني الذي تعيشه مؤسسات تصنع القرار التنموي للوطن، والمشكلات النفسية التي سبَّبتها إشكالية الروتين الزمني العقيم للإنجاز في نفوس أصحاب المصالح حتى أصاب بعضهم الإحباط، وفتور العزائم.

اتصلتُ ذات مرة بمديرٍ في إحدى الجهات التي تتباهى بسرعة الإنجاز وقد مرَّ عامٌ على موضوعٍ لي لا يستغرقُ أسبوعاً، فقلتُ له مازحاً بكلامٍ يحمل مرارةً: إنني أنوي إقامة حفل لمرور عام على موضوعي لديكم وأودُّ أن نحتفلَ سوياً بهذا الإنجاز!! فكم هي المواضيع التي لو سرِّعت في إنجازها لأسهمت في تحريك الاقتصاد، وإيجاد فرص للباحثين عن العمل، لكننا نتساءلُ كما يتساءل المتنبي:

ما للجمالِ مشيها وئيدا.. أجندلاً يحملنَ أم حديدا؟

إنِّه الوقت الذي يدفع الأُمم إلى الرقي، ويصنع الحضارات، ويدفع الدول إلى التنافس، فإن أدركت قيمته كان لها السبقُ، وإن لم تدرك فقد كتبت على نفسها أن تتأخر.. والتأخر ضمور.. ضمورٌ حاد.