مقاربة لفهم إيقاع العصر

 

جمال قيسي| ناقد وروائي وتشكيلي عراقي

نحن غريبي الأطوار، أو هكذا يُنظر لنا، طبعًا أقصد المنهمكين بالأدب. كُتاب وقراء، ربما نعتبرها نظرة متعسفة  للوهلة  الأولى، لكننا  في  لحظات الاسترجاع للموقف،  تنكشف لنا. الصورة واضحة وجلية رغم بشاعتها، إنه عالم اليوم، عالم  سريع الإيقاع  لم نتمكن من التزامن معه لأن آلاتنا الواعية أو الجزء الأهم منها وأقصد عقولنا التأملية، صممت  بنظام مغاير، نحن أشبه بالعملة التي أسقطت وتم إيقاف التبادل بها، وهذا لايعني أننا على حق، أو إن ما يجري خارجنا رغم بشاعته هو باطل، تستوقفني كثيرًا مقالة هنا وهناك بصدد انهيار القيم، ورغم فجاجة  بعضها فهي تنطوي على جانب مأساوي، ولكني سأتجنب العاطفة وأناقش أوليّاتها  بعقل بارد، لشخص يقف على خراب عالمه ولا يملك إلا أن ينظر  بحيادية، ليس من باب إعادة النظر وتقييم الموقف لأن ما بعده لا يعنيه  بأية حال  فهو  خارج  دائرة التأثير في نهاية  المطاف ومن المؤكد أن من  سيقرأ هذا هم  جماعة الانهماك الأدبي، مجرد مواساة، مرحلة وعي تخطاها الزمن  بقسوة وخشونة، كان رأي الروائي الكبير هيرمان هسة  في معاناة جيله، أنه جيل ولد وعاش في نهاية عصر وبداية تشكل عصر جديد ومأساته  أنه تطبع بالقديم ويواجه صعوبة المتغيرات للعصر الجديد، مع إن الانقلاب السوسيوثقافي لم يكن  دراماتيكياً  في دخول القرن العشرين مثل عصرنا، كان بمعطيات إديسون، واينشتاين وانريكو فيرمي ورذرفورد  هي امتداد لنيوتن وجاليليو، وكذلك في الأدب كان كتاب القرن العشرين امتدادًا لديستوفسكي  وتولستوي وهيرمان ملفل، مع إن همنغواي و فولكنر وجويس وهيرمان هسة  والكثير، اختطوا منهج القطيعة، لكن ليس قطع الصِّلة أي ليس هناك انهيار مؤسساتي. 

على العموم الأمثلة كثيرة، والحديث طويل جدًا، ولكن لابد لنا من أن نحدد مسار بحثنا، آخذين بعين الاعتبار تشعب الموضوع ، مع مراعاة  المساحة الممكنة للقراءة، وبالتالي سيفقد  طرحنا للكثير من المسائل الضرورية ذات البعد المنهجي البحثي الأكاديمي، لذا نرجو من القارئ أن يلتمس لنا العذر.

أنا وفق رؤيتي لما يجري حولي وبالطبع يملئني الرعب من ذلك  وهو  شعور طبيعي، فعندما تجد نفسك على حين غرة بمحيط  لا يمت لك  بصلة  ثقافية  في أحسن  حالاتك  ستعاني الفصام، هذا إن لم يصبك  الذهان.

من خلال تقديري للموقف (الرؤية) فإن  الموضوع مرتبط  بمتغيرين أطلقت عليهما الـ(ترهين) و الـ(تزمين)، ولأن المصطلحين هما من نحت أفكاري الخاصة بصدد وظيفتهما، سنكتشف ما هما من خلال مسيرة البحث، بعد أن نشخص بعض المعطيات الفاعلة لفهم التغيرات لعصرنا وزخم حركتها وعصفها الثقافي.

١/ طالما أننا نتكلم عن ثقافة، فهذا يعني أننا نتكلم عن الخطاب ودوره السلطوي في الحراك الاجتماعي والتاريخي؛ أي بمعنى فكر (أيديولوجية) ومصالح (سلوك، ممارسة، مصالح مرسلة، إجراء ضروري)  وهما دافعي حركة الإنسان الواعي.

 

٢/  متى يمتلك الخطاب السلطة  ومن  ثم  الهيمنة ؟ عندما  تتحقق اللازمة الفاصلة في التاريخ، وحتى نبسط الأمر، اللازمة الفاصلة هي (قبل - بعد)، أي  بمعنى أكثر تبسيطًا عندما تسمع الخطاب ومحموله سيكون موقفك غير الذي كان قبل أن تسمعه، ولنأخذ مثال ذلك خطاب القرآن  عند نزوله  في العصر الجاهلي  فصل  بين عصرين، مقال في المنهج لديكارت، فصل في مسيرة العقل الغربي وفارق بين عالمين،  مقال عمانوئيل كانط، ما التنوير؟ وكذلك فعلت مؤلفات فولتير وجان جاك روسو التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية والتي غيرت وجه العالم  والبيان الشيوعي لماركس وانجلز أدى إلى قيام ثورة أكتوبر  وما تمخض  منها تغييرات حيوية، إذن هذه اللازمة الفاصلة  (قبل - بعد)  هي  الترهين، أي ربط الحاضر بين المصالح والأفكار، ولكن هذه الهيمنة أو السلطة متى تتحقق؟، فقط عندما يتم تبنيها من مجموعة مؤمنة بالخطاب  وتنتظم بصلابة من أجل تحقيق مراميه على أرض الواقع والتي يسميها غرامشي بالكتلة التاريخية وعندما تقوم باستلاب الجماهير حوله وتحقيق الهيمنة هي تحقق التزمين، أي امتلاك  زمنها  وطريقة تمثل أفكار الخطاب في الواقع.

 

٣/ علينا أن نعود للتاريخ  كتحقق وتمثل ، عندما تتحول المجموعة البشرية إلى ظاهرة  مؤثرة على غيرها من مجموعات أخرى وتمارس سلطتها الثقافية وفق خطابها الذي تحدثنا عنه، التاريخ هنا لا نقصد به التحقيب والتسجيل للحوادث (الكرونولوجية)  وإنما الحراك الاجتماعي، عوامل الواقعة التاريخية هي (الزمان - المكان - العقل) وهذه العوامل هي  التي صنعت التاريخ  ولكن ما الذي استجد  في هذا؟ ليتغير عصرنا الحالي إلى وجهة أخرى مع بقاء هذه العوامل؟    لقد بقيت العوامل التاريخية نفسها لكن أضيف إليها عامل جديد  في غاية الخطورة من ناحية  التأثير، إنه عامل (التواصلية) وهذا العامل الأخير أشبه بالعنصر المسرِّع في التجارب الكيميائية.

لنرى كيف أثر على بقية العوامل  خلال تفاعله مع الزمان، لقد جعل إيقاعه أسرع  من قدرتنا على التساوق مع الحدث بالإضافة إلى الرزمات الكثيفة من المعلومات التي بتنا نتلقاها، لم يعد لدينا الوقت والقدرة على أن نتعامل معها بعمق من روية وتحليل  وتقدير موقف (رؤية)، بات خطاب الصورة والشريط المصور التعويض عن مراجعة المعطيات بالتحليل، وهذا هو تسطيح للوعي، أما تأثير التواصلية على ظرف المكان، فهو  ذات نتائج كارثية، المكان هو  الوجود الصلب والمعطى المادي  أي الواقع ، تحول الى واقع افتراضي (ديجيتال)، وهو واقع مفرط، أما انعكاس هذا الأمر كله على العقل، هو فقدان حالة (الشك - اليقين)  الأمر  الذي  أدى إلى انهيار المنظومة القيمية  بالكامل  طبعًا التي عرفناها  نحن أشباه المنقرضين.

 

٤/ بالمجمل التغيرات التي حدثت  هي نتاج المجتمعات الغربية وهيمنة  ثقافتها  وهذه التغيرات هي نتاج طبيعي  بالنسبة لها، أي أنها  قائمة على النظام المؤسساتي يعني أن هناك عملية مأسسة، فكل حقبة تعطي وتفرز معطياتها  ووتأتي اللاحقة لتكمل، لكن المفارقة حدثت عندنا  لأننا مجتمعات تفتقد  لنظام المؤسسة لذلك نحن كأمة أو مجموعة ثقافية نفتقد للترهين والتزمين  لهذا العصر وعقلنا الجمعي هوامي ويجدف بعيدًا.

تعليق عبر الفيس بوك