د. صالح الفهدي
دُعيت ذات مرة من قبل كلية التربية بجامعة السلطان قابوس للمشاركة في ملتقى المواطنة، والتي غالباً ما تُطْرَق من زاوية العوامل الناجعة لتعزيزها في قلب المواطن، وهذا أمر حميد، بيد أنني طرقتها من جانب أخال أنه مختلف في طرحه، وقد كان ذلك من جانب "دور المؤسسات الحكومية في تعزيز المواطنة".
لقد كان لهذا الاستدعاء دواعيه التي برزت على الساحة مؤخراً، ولعل من نافلة القول بدايةً أن نؤكد أن المواطن يرى في الحكومة ضماناً وأماناً، ويستمد منها المكنة والقوة، ويستقوي بها على شدائد المحن، وضوائق المعيشة، فهي بمثابة "الأب الراعي" وهي المظلة الحانية، لهذا يوصي جلالة السلطان في خطابه الذي جمع له كبار مسؤولي الدولة عام 1978، والذي أعتبره شخصيًّا بمثابة "ميثاق أخلاقي في مسؤولية حكم الوطن" يوصي جلالته المسؤولين بالقول: "عليكم أن تجعلوا نصب أعينكم دوماً مصلحة عمان وشعب عمان، وأن تتذكروا ما قلناه آنفاً بأن هذه الدولة بكل أجهزتها هي لخدمة هذا الوطن العزيز ومواطنيه الأوفياء".
هذه هو المنطلق الأساس: "الدولة بكل أجهزتها هي لخدمة الوطن ومواطنيه"، وهو أساس كل دولة تقوم على وجه الأرض، ولا جدال في ذلك، وبهذا يرتبط مفهوم المواطنة بـ"خدمة الوطن ومواطنيه" من ناحية الحقوق التي يتكفل بها الوطن، و"إخلاص المواطن وتفانيه لوطنه" من ناحية الواجبات التي يحملها المواطن على كاهله.
المعضلة تكمن في أن المناهج السائدة تركز في خطابياتها على تعزيز المواطنة عند المواطن (الواجبات)، أكثر من تركيزها على دور المؤسسات في تعزيز المواطنة (الحقوق)؛ مما يخلق فجوةً مفاهيمية في مصطلح "المواطنة" وذلك له أثره غير الحميد في نفسية المواطن، وتقديره لموطنه، ولنكن صرحاء هنا، لأن المجاملات لن تخدم وطناً.
لقد شاهدت مواطناً يلقي بالنفايات في أماكن عامة، وأثار هذا الأمر غضبي، فلما اقتربت منه وانحنيت إلى الأرض ألتقط ما رماه، قائلاً له إن عمان لا تهون، قال: خلص لي معاملتي في الوزارة الفلانية!! أولاً علينا أن نقر بأن هذا السلوك الغريب لا ينم عن عقلية ناضجة لأن أرض الوطن لا ترتبط بقانون معقد، أو إجراءات عويصة، أو مسؤول متعنت، وهو سلوك لا يقر به عاقل، إنما علينا أيضاً أن نأخذ الأمر من جانب آخر وهو أن عدم التعامل مع المواطن في إطار من المساواة والعدل أسوةً بأقرانه سينتج عنه التأثير العميق في شعوره المؤلم حين يأتي الحديث عن مفهوم المواطنة.
علينا أن نكون صرحاء، ولنضع هذا الأمر موضع العقل والمنطق، فالمؤسسة الحكومية التي لا تتوازن في تعاملاتها مع المواطنين على حد سواء فتحقق مصلحة هذا، وتقصي هذا، وتعمل بمبدأ الأفضلية لهذا وتنبذ ذاك، وتوافق على طلب هذا، وترفض طلب ذاك، فإنها حتما تهدم ما يبنى من قبل مؤسسات أخرى لتنمية المشاعر الوطنية، وترصين قواعد المواطنة في نفسية المواطن.
ولأكن صريحاً أكثر؛ فالوزارة التي تمنح مواطنًا أرضاً سكنية، وتجارية، وزراعية، وصناعية، وسياحية، وتحرم مواطناً آخر من أرض سكنية تأويه وأسرته لا يمكن لها أن تسهم في بناء المواطنة في مفاهيمها العليا، بل على العكس من ذلك فإنها ستضعف في نفسه شعور المواطنة؛ فشعور الآخر أبعد بكثير عن شعور الأول الذي نال ما أسماه (حقوقاً مكتسبة)، بينما لم ينل الثاني من هذه الحقوق حقاً يتيماً..!! وقس على مثل هذه الوزارة غيرها من المؤسسات.
والأمر نفسه يطبق على الأفراد؛ فالجهة التي ترفع هذا مقاماً وهو لا يستحق تلك المنزلة الرفيعة، ثم تقصي آخر ذا كفاءة، أو علم، أو إنجاز مقدر، أو إخلاص وطني مسنود بشواهد وبراهين ساطعة، فهي الأخرى تضرب المواطنة في مقتل، وتصيبها في الموطن الذي أمنت منه!
ويعود ذلك إلى منطق العقل والحق والعدل، فصاحب الكفاءة والإخلاص لوطنه والعمل الدؤوب يتوقع تقديراً من وطنه على كل ما يبذله، أما حين يرى أن من يعلوه في المكانة، ويتقدمه في المنزلة، أبعد ما يكون عن تلك الخصائص، وأدنى ما يكون عن القدرات والإمكانات، فإن قناعةً معوجةً تبدأ في الرسوخ في عقليته، مفادها: أن كفاءتك لا تعني شيئاً في سبيل التنافس لبناء وطنك، وأن قدراتك ومهاراتك وإمكاناتك ليس لها قيمة في مضمار التنافس، وأنك مهما اكتسبت علماً، وبذلت عملاً فلن تجد من يقدره حق تقديره، وهذه رسالة مؤلمة لكنها واقعية النشوء، والأسباب، ويفترض أن يدرك أبعادها ذوو الشأن والقرار.
لقد قُلت ذات مرة في مجلس الدولة حين دعيت للمساهمة في الحديث عن المواطنة: إن بعض الجهات تجهل الضرر الذي يلحق بالمواطنة من جراء سياساتها اللامنصفة؛ وضربت على ذلك عدة أمثلة؛ منها: أن طالبات في جامعة السلطان قابوس -وكن حاضرات- يعملن على مشروع لإصلاح الأحداث في السجون، تنصلت كل الجهات المسؤولة عن دعمه، حتى لجأن إلى جمعية خيرية، ووصلتني رسالة الجمعية، فقمت بالإسهام في هذا المشروع بقدر إمكاناتي المتواضعة، وتساءلت حينها: لِمَ لا يدعم مشروعًا يهدف إلى إصلاح مواطن حديث السن جرفته ظروف شتى إلى السجن وهو في أوج العطاء؟
الشاهد، أن المواطنة ليست دروساً تلقى، ولا حكماً تخط على الجدران، ولا مقررات مناهج تحفظها الصدور، ولا عناوين تصدرها الصحف بل هي واقع ماثل. المواطنة موازين متكافئة بين حق مكتسب وواجب أكيد، لا يفرق بين هذا وذاك في ميادين المواطنة، فأعظم مثلبة أن يُفرق في حق بين مواطن وآخر. المواطنة هي تمييز المخلص من الانتهازي، وتقديم المجتهد عن الخامل، وإعلاء المثابر على المتكاسل. المواطنة عدالة يقف أمامها الأمير والفقير، والسيد والخادم، والظالم والمظلوم فتكون هي القاضي الذي ينتصر للوطن والحق لا للشخوص والمصالح.
وتزامناً مع ترسيخ المواطنة منطقاً، وحكمةً، تضرب بها في عالم الواقع الأمثلة، فيجد الدارس أن الواقع ليس ناشزاً عما يدرسه فيزداد قناعةً بما يدرس، ويجد الواقع تطبيقاً لما يحفظه فيرى في نفسه الدافعية للمضي قدماً في تطلعاته لبناء وطنه.
أخلصوا للمواطنة، تنتجوا شعوراً صادقاً بالوطنية، فأنتم مسؤولون عن المواطنة في القضاء على الفساد، والمحسوبية، والتحيز، أخلصوا للمواطنة فأنتم مسؤولون عنها أمام الوطن وقائده والشعب والتاريخ؛ وقبل ذلك فأنتم مسؤولون عنها أمام الله، أخلصوا للمواطنة قبل أن تزعموا حبكم للوطن، فهي أساس الوطن ذاته.