قراءة في ديواني "أبيض شفاف" و"كامل الأوصاف" لسمير درويش

...
...
...

 

سمر لاشين| شاعرة وناقدة مصرية

 

("شاعرٌ وضابطٌ وأريكةٌ وامرأةٌ")

ما بين أبيض شفاف وكامل الأوصاف ثمة رجل خمسيني لم يتقن شيئا في الحياة أكثر من أنه حافظ على وحدته حتى يستطيع أن يخطو نحو الستين بثبات. كل ما طالب به أن يحظى بمساحة كافية كي يكتئب كما يليق بشاعر.

ما بين أبيض شفاف وكامل الأوصاف مساحات شاسعة من الوحدة وكأن السنوات لا تمر وكأنها في الوقت نفسه مرت سريعًا إلى الستين بنفس الرتابة والتكرار الممل للمشاهد والأحداث التي يربطها عامل مشترك "شاعر غارق في وحدته".

أبيض شفاف:

"الخمسينيون ليسوا رومانسيين قطعًا

ولا يحرصون على ترك انطباع جيد لدى امرأة وحيدة

ممشوقة ومتعالية، كهذه

لكنهم ينفردون بذواتهم غالبًا

وينزفون شعرًا"

 "أبيض شفاف" ديوان لشاعر خمسيني لن ينتحر بسهولة، لأنه قادر دومًا على ابتكار عوالم هادئة وسط صخب الحياة. سمير درويش في هذا الديوان يتخذ من اليومي والمشاهد الحياتية التي يمر بها مفردات يبني بها قصيدته، ديوان -كُتب في حوالي 10 أشهر يحتوي على 48 قصيدة في 122 صفحة- يجسد يوميات رجل صامت، رجل يشبه ضوءًا يتسلل من النوافذ المغلقة، شاعر ترهقه خيالاته، يخبئ ثورات داخله، في حين أن ملامحه تتصف بالهدوء التام.

ثمةّ -مفردة تكررت كثيرًا في الديوان- أشياء كثيرة تحاصره، أهمها على الإطلاق "ثمةّ امرأة"، امرأة وحيدة لا تعرف أنه بعيد جدًا ووحيد.. وأنه يبحث عنها.

سمير درويش يخلق الأنثى في خياله ثم يهرب منها، يخاف أن تزاحمه في الواقع ويتفادى وجودها، ويمر بهدوء جانبها اذا صادفته في النص، هو رجل متزن قادر على ضبط انفعالاته يجلس غير مبالٍ ينتظر أن تتقدم له المرأة أولًا بخطوة بينما يبتعد عنها بخياله عشرات الخطوات. كل ما يحتاجه من المرأة "أن يتخيلها فقط" كي يجد مدخلًا صالحًا لقصيدة يكتبها.

الديوان يسير وفق موضوع واحد حرص الشاعر ألا يخرج عنه، هو يرصد كل ما يحيط بوحدته مما يجعل القارئ يتنقل معه من شقته إلى الشارع إلى البلاد التي زارها دون أن يشعر أن الشاعر خرج عن الموضوع الذي يتناوله من أول قصيدة حتى آخر قصيدة بالديوان، بالعكس يريد أن يرى الشاعر كيف كان هنا وكيف تصرف هناك وكيف تعامل مع وحدته.

ساعد وحدة الموضوع في الديوان قصر الفترة التي كُتب فيها، فهناك فترات يلزم فيها الإنسان حالة نفسية واحدة وإن تعددت اهتماماته، فغالبًا تصاحبه حالته النفسية أوقات فرحه وحزنه، وحدته واختلاطه بالناس.

تلك نظرة سريعة عامة على الديوان لندخل مباشرة إلى كامل الأوصاف ونعيش مع شاعر أصبح أكثر صمتًا، ونزفًا للشعر.

كامل الأوصاف:

سمير درويش شاعرٌ، المسافة بين دمه وقصيدته تسع الحكايات، والدموع، والذكريات التي تبهت تدريجيًا، وقدما امرأة تركتا أثر فوق تراب الشارع، وتسع أيضًا الضبّاط المنهزمين، والصمت الطويل.

أعمدة هذا الديوان "شاعرٌ وضابطٌ وأريكةٌ وامرأةٌ".

ما الذي بين ضابط وشاعر، حتى يزاحمه في قصائده وشارعه وبيته وأريكته، ويحتل مساحة لا بأس بها بين امرأة ووردة، بين امرأة وقصيدة، بينه وبين امرأة في شارع مهجور.

تكررت مفردة "الضابط" في الديوان بشكل صريح حوالي 20 مرة على النحو التالي:

"الضبّاط الكسالى/ الذين يرسلون أدعية صامتة وينامون على أسرّة/ لا يملكون أسرارها" ص13، "الضابط على أريكته المعتمة/ منبوذ، يقلب في دفاتره القديمة"، "الضابط لا يأكل تفاحة البيت التي انفتحت/ ليس زاهدا في التفاحة الضابط/ وليس التفاح غير ناضج/ لكن -وربما- الطبيعة تضع الضباط/ بأجسادهم الثقيلة/ على أرائك معتمة جدًّا" ص14، "الضابط نائم الآن بهدوء عسكري | دون خاتم عرسه" ص15، "ولأنني لست ضابطًا"، "الضبّاط القدامى المتربصون بأحلامنا" ص16، "ضبّاط الضرورة هائمين على وجوههم" ص19، "الضباط المنهزمين" ص20، لا أتعاطف مع الضبّاط المنزليين" ص21، "ولا حلّة لضبّاط الجيش" ص28، "ثمَّ ضابط برتبة عالية | يتقلب في فراش محروس بجن وملائكة" ص22، "الضابط لا يثمن الضوء" ص29، "لو أن ضابطًا أتاها –بكامل هيئته" ص33، "الجثة التي تتمدد على الأريكية.. ليست جثة ضابط بالتأكيد" ص30، "يطرد الضابط من فوق أريكة خاملة" ص36، "أو تشاهد فيلما أمريكًا | ينتحر الضابط في نهايته" ص38، "الرمل هامد كضابط يجتر أحزانه" ص53، "أقول للنادل أنني لست ضابطًا" ص65.

الديوان الذي يتكون من 100 صفحة يتم فيها ذكر مفردة ضابط أو ضباط بشكل صريح حتى الصفحة 65 منه، دليلًا على أهمية ودلالة هذا المصطلح وتوظيفه في الديوان، في الوقت نفسه نجد أن الضابط كان حاضرًا بقوة في بدايته حتى اختفى بالتدريج في نهايته، ربما نسى الشاعر أمره أو تعايش معه.

الضابط ربما هو سلطة فعلية تمثل السلطة بشكلها على أرض الواقع، وربما هو رمز لسلطة الشاعر على نفسه، وربما الوجه الأخر لشخصية الشاعر: "الجثة التي تتمدد على الأريكية.. ليست جثة ضابط بالتأكيد | لأنها لا تزال قادرة على الحزن | وتثور كلما تطلب الأمر" ص30، هنا بالتحديد يتضح أن الضابط هو الوجه الأخر للشاعر، وفي موضع آخر يتأكد هذا الاحتمال "كنت أحمل باقة ورد لامرأة تسكن السماء.. كنت أنوي أن أضع الباقة في مقهى أعرفه | وأقول للنادل أنني لست ضابطًا" ص65 مما يجعلنا نقسم شخصية الشاعر إلى قسمين:

الشاعر الانسان العادي الذي عنده حماس فطري، عنده شغف يحتل عروقه، قادر على الحزن والثورة، عنده خيال واسع، ينام مثل طفل بدائي أخر الليل.

الضابط الإنسان صاحب السلطة الذي لا يتحدث في هاتفه طويلًا، الكسول المهزوم المنبوذ، الذي يخيف العابرين، أريكته معتمة جدًّا، جسده ثقيل، لا يملك خيالًا كافيًا، ويحسب ألف حساب للمكسب والخسارة، ينام آخر الليل بهدوء عسكري دون خاتم عرسه، على أسرّة لا يملك أسرارها.

الشاعر لا يحب الضابط، يكرهه أكثر من كرهه لوحدته، يعلم أنه كامن بداخله، أحيانا يتمنى أن يكونه وأحيانًا يتبرأ منه، نجده في المشهد الخاص ببائعة الخضروات يقول "بائعة الخضروات في الشارع الخلفي | لا تعرفني" وفي نهاية المشهد يقول "مرة فكرت: ماذا لو أن ضابطا أتاها –بكامل هيئته– كي يشتري أنواعًا كتبتها في قائمة؟ | قطعًا ستفرح، وتنتقي الأجود | وربما تتمناه في فراشها | فبائعة الخضروات لا تدرك أنه | ربّما.. يخذل النساء في الفراش" ص33، شخصية الضابط التي تتصف بالقوة "القوة التي تتمناها أي امرأة" وهي الشخصية الأخرى للشاعر الذي يعمل طوال الوقت ألا تراها امرأة، يدرك في قرارة نفسه أنها لو ظهرت لبائعة الخضروات لعرفته وتمنته ككل النساء اللائي يغريهن الزي العسكري.

في موضع أخر يضع الشاعر خيارات وأفكار للمرأة التي يحبها، ويذكر أن هذا الوضع ربما كان سيختلف لو كان ضابطًا: "سنحتاج أن تكوني أخف | لأحتمل رأسًا مثقلًا بالذكريات الحزينة | فوق صدري | ولكي نبدل أوضاعنا ببساطة | ولأنني لست ضابطًا | فأمسح ملامحي بالتدريج، وبالتدريب الممل"، في هذا المشهد يطلب الشاعر من حبيبته أن تكون أخف قليلًا للأسباب السابقة وأسباب أخرى اجتماعية، وسياسية تبرر طلبه "كي لا يحفظ التراب خطواتنا معا | وأحجار الكورنيش | وسور أمن الدولة | والضباط القدامى المتربصون بأحلامنا | وواجهات البيوت التي تصمت | في الشتاء | وبعد الثالثة فجرًا" ص16.

والضابط يمثل في الوقت نفسه مصدر تهديد له ولغيره: "ثمة ضابط في غرفة حصينة بالمبنى الأبيض | وأسلحة غير مستعدة للقتال | وذكريات كثيرة" ص49، الضابط يراقب خطوات المارة بالشارع "يراقبون خطواتك الواثقة حينًا | والخائفة حينًا"، وحتى عندما أراد الشاعر أن يلتقي حبيبته في شارع "شبه مهجور" طلب منها أن لا تعير الضابط الواقف في شرفة عالية أي اهتمام.

نعود ونقول "شاعرٌ وضابطٌ وأريكةٌ وامرأةٌ"، ما الذي تعنيه "أريكة" للشاعر وإلى مدى كان دورها في الديوان ودرجة تأثيرها؟

"الأريكة" هي مشنقة للخيال "بقايا الجالس على الأريكة | التي ليست سوى | مشنقة | للخيال" ص88، ورجل الأريكة هو الشاعر، وهو الضابط، وهو الجثة، الأريكة لا تخص الشاعر وحده، هي للضابط والمرأة التي يحبها: "ربما تتمدد الآن بقميص غامق | على أريكة تسبح في الضوء الشاحب" ص38، "الطيور التي تدخل جثتي لا تعيش طويلًا | وقتها سيكون الضابط ممدًا على أريكته | يتابع الصور على صفحته بحياد | كحياد الجمال" ص34، والأريكة للزوج الكسول وإن نفى صفة الكسل عنه "لست زوجًا كسولًا | يجلس فوق الأريكة دون تململ" ص41.

رجل الأريكة أو الجثة التي تتمدد عليها والحكايات والآثام التي تنام عليها تخص الشاعر وحده: "الآثام التي تنام على الأريكة لصقى تمامًا | تخصني وحدي" ص19، "لا أرغب في ترك رسالة لأحد | لأن أحدًا لن يقرأ رسائلي | ولا أن أستعيد الأصوات التي تمددت على أريكتي" ص29، "الجثة التي تتمدد على الأريكة تلك فيها بعض خصائلي"، "غير تلك الحكايات التي تحفظها الأريكة | الملائكة والشياطين مروا من هنا" ص30، "رجل الأريكة | اليومي هذا | لا يرى الألوان التي تداعب بياضها" ص43.

هناك اختلاف بين رجل الأريكة والشاعر "ثمَّ منازلة | بين رجل الأريكة وبيني" ص31، إلا أنهما بالأساس شخص واحد لا يقدر على طرد الضابط من على أريكته "رجل واحد لا يستطيع أن يدفع البرد | أو يكنس التراب من دماغه | أو | يطرد الضابط من فوق أريكة خاملة" ص36.

"شاعرٌ وضابطٌ وأريكةٌ وامرأةٌ"

وامرأة..

"القصائد التي لا تتوغل في قلب امرأة ما | لا يعوَّل عليه، كما لا بد أن تعرفين | والقبلات المتخيلة على عنق ناعم لا تشبع شاعرًا | لهذا سأكون في وحدتي هنا | ألعن الأيام المتشابهة" ص23، إلى متى سيكون كل هم الشاعر قصيدة تصل إلى قلب امرأة، إلى متى ستظل ترهقه خيالاته، لا شيء واقعي لا شيء ملموس، حتى الورود التي يهديها إلى امرأة ورود افتراضية محض خيال "الورود الإلكترونية التي تلين الحجر" ص7، "الورود الإلكترونية ليست صامتة" ص18، واندهشت حين كانت الورود حقيقية من تساؤل الشاعر "لمن أحمل الورود تلك" ص65.

لكن الشاعر الذي يعبر إلى الستين بكامل ثباته ووحدته، عنده أمل أن يعيش الحب حقيقة وليس خيالًا، أن يكتب القصيدة في امرأة جالسة أمامه "يوما ما سأقص أحلامي كلها عليك | حين نجلس على مقهى قريب من البحر"، "يوما ما.. سترين عريك في قصيدة | أكتبها برذاذ البحر على صوت جنونك | لا تبنى على ذكريات | ولا تشتاق لأحد" ص27.

وقد قرر الشاعر ذلك بشكل قاطع بكلمات ختم بها ديوانه "لا أريد أن أكون عاشقًا خياليًّا | لهذا سأكتب –في كتاب جديد– عن اللمسة الأولى | والقبلات التي تنفذ حتى البدايات | وعن اللهو الجميل" ص94.

الأيروتيك والمرأة ..

ليس ثمة عمل أدبي أو فني لا يحمل بين دفتيه مفاهيم أو أفكار ايروتيكية، المشكلة الحقيقية تكمن في ألا يستطيع الكاتب أن يفرق بين الإباحية بمعناها المجرد والفج، الخالي من الحس الجمالي والفني للمفردة والمعنى، وبين الايروتيك بمعناه الروحي الذي لا يذهب بالنص إلى دلالته الشهوانية المجردة انما يتسامى بالنص من خلال جمالية اللغة والصورة بأسلوب مرهف دونما اسفاف، بلغة متوارية وبإشارات عابرة لا تخدش حياء القارئ وهو ما فعله سمير درويش في القصائد الايروسية الموجودة في الديوان " كيف تصيرين في فستان عند الركبة| بحمالات عريضة فوق الكتفين| مصنوع من قماش قطني خالص| وضيق تحت الصدر كي يبرز عظمة نهديك ؟| كيف ؟ | أحتاج خيالا جامحاً لأرى ! " ص 72 ، " أنت لا تملكين فستانا قصيرا مكشوف الصدر | وأنا لا أملك جناحي ملاك | ولم يبعثني الله كي أجدد دينه | لهذا يمكن أن نلتقي في الشارع القريب | هذا، شبه المهجور | كي تراقبي انفعالاتي الباطنية | وكي أكتشف مواطن البثور السوداء على نحرك | التي ورسها بياضك الرخامي " ص 50 ، " لا أغمض عيني أثناء التقبيل عادة ...... لا أغمض عيني كي أرى شريكتي تسافر في طبقات الأرض تعرج حتى سدرة المنتهى | ولا تعود إلا خفيفة من سوائلها الشفافة | التي تنسكب على أصابعي | لا أغمض حتى لا أتشبه بالحصان المريض | الذي يمارس الحب بآلية .. في الظلام " ص 46 ، وغيرها من النصوص التي قدمت الشعر الايروسي كتعبير عن الروح الانسانية الخالصة، في أبهى وأطهر صورها.

ديوان كامل الأوصاف يقع في 100 صفة وهو تجربة جمالية واحدة تندرج كلها تحت العنوان الرئيسي، تتناول البسيط واليومي وتحتفي بالهامشي والمهمل من خلال عدد كبير من المشاهد الشعرية القصيرة والمختزلة، معظمها يقع في صفحة واحدة، والتي يكتفي الشاعر بوضع نقاط ثلاث في نهاية كل مشهد، وهو صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كُتب ما بين العام (2017، 2018م).

تعليق عبر الفيس بوك