حاتم الطائي :
◄ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيفجر أزمات سياسية واقتصادية
◄ التيار الشعبوي يستفحل في أوروبا.. ومخاطر التفكك تتزايد
◄ التأثيرات على أسكتلندا وآيرلندا الشمالية تهدد بانهيار المملكة المتحدة
بعد إعلان نتائج الانتخابات العامة في بريطانيا يوم الجمعة، وفوز حزب المحافظين بأغلبية ساحقة لم تتحقق منذ عهد المرأة الحديدية مارجريت تاتشر، بات من المؤكد أنّ بريطانيا بعد يوم 31 يناير المقبل لن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لتكون أول دولة تنسحب من هذا التكتل الذي تأسس- في صورته الحالية- أواخر عام 1993 وظل يتوسّع طيلة هذه السنوات، وكان آخر عضو انضم إليه دولة كرواتيا في صيف 2013.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف اختصارا بـ"بريكست" يمثل أكبر صدمة تتعرض لها القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية، والصدمة التي أتحدثُ عنها هنا صدمة اقتصادية وسياسية، فالكيان الذي تأسس في أعقاب سنوات من انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الولايات المتحدة كقوة عالمية أحادية القطب، دفع القادة الأوروبيين إلى إحياء فكرة جمع دول القارة التي تتشارك في الحدود والمخاوف الخارجية إلى جانب التحديات الاقتصادية، وتبلورت الفكرة ومرّت بمراحل عديدة، كان آخرها معاهدة ماستريخت التي مهدت لإعلان الاتحاد وقيام مؤسساته، التي تعد من أقوى المؤسسات العالمية بعد الأمم المتحدة. فالمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي، والبرلمان الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة "يورو" ومحكمة العدل الأوروبية في لوكسمبرج، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وغيرها من الهيئات واللجان والمعاهدات التابعة لأكبر اتحاد في العالم، كلها كيانات راسخة تعزز من قوة ومتانة هذا الاتحاد.
غير أنّه ومع صعود التيار الشعبوي وتنامي النعرات القومية في أوروبا، واستغلال الأحزاب والسياسيين لمثل هذه المشاعر اليمينية، دفع أغلبية الناخبين البريطانيين في اتجاه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكانت البداية مع إعلان نتائج الاستفتاء الذي أُجري في عام 2016، لتظل القضية بين شد وجذب طيلة 3 سنوات، حتى وصلت محطتها النهائية بإعلان نتائج الانتخابات الأخيرة. المؤسف في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس فقط الخشية من تصدع أو تفكك الاتحاد، بل إنّ الخطر الأكبر يأتي من التداعيات المحتملة. فبريطانيا إلى جانب احتمال تكبدها 39 مليار جنيه إسترليني، نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإنّ الاقتصاد البريطاني سيواجه معضلات عدة، في مقدمتها فقدان الامتيازات الجمركية التي تحصل عليها بريطانيا لتصدير بضائعها إلى دول الاتحاد، في إطار ما يعرف بـ"السوق المشتركة"، وكذلك ستعاني بريطانيا في وارداتها الأوروبية مع احتمال فرض رسوم جمركية ترفع من سعر السلع أمام المستهلك البريطاني. وفوق كل ذلك، تضرر لندن- عاصمة المال والأعمال- من هذا الخروج، نتيجة لعدم قدرة المستثمرين على الدخول والخروج من بريطانيا كما كان الوضع قبل البريكست، فضلا عن احتمالية تضرر عملية تحويل الأموال والأرباح الرأسمالية. لكن الأشد وطأة على الاقتصاد البريطاني هو فقدان لندن لمكانتها الاقتصادية كمركز مالي للاتحاد الأوروبي وتضرر قطاع العقارات وهجرة الشركات متعددة الجنسيات من هناك إلى عواصم أوروبية أخرى. وهذه التبعات الاقتصادية ألقت بظلالها القاتمة على دور ومكانة الاتحاد الأوروبي، وباتت بروكسل في حيرة من أمرها وتوجس من تعرض هذا الكيان إلى خطر التفكك، لاسيما وأنّ عددًا من الأحزاب الأوروبية الشعبوية كشفت عن نيتها تبني ذات النهج البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي.
لا شك أنّ اليميني الشعبوي بوريس جونسون يخضع في الكثير من أفكاره إلى أفكار الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب، فالأخير دائما ما يعتبر جونسون بمثابة صديقه المخلص في المملكة المتحدة، حتى إنّه وصفه بـ"ترامب بريطانيا"، في إشارة إلى التماهي الفكري والسياسي بين الإثنين. وأعتقد هنا أنّ جونسون يخضع لسيطرة أفكار ترامب، اقتناعا منه أنّ الاتفاق مع الولايات المتحدة أفضل من الاتحاد الأوروبي، وأنّ علاقته القوية بالولايات المتحدة ستكون أقوى من علاقته بأوروبا. وفي المقابل يريد ترامب أوروبا ضعيفة، وبريطانيا تابعة، حتى تنفرد الولايات المتحدة كقوة عظمى أحادية، فترامب لا يقبل أبدا بفكرة وجود نِد له يعارضه في قراراته، فإذا ما أراد ترامب معاقبة الصين وزيادة الرسوم الجمركية عليها، يأمل في الوقت نفسه تحركات دولية واسعة النطاق تدعم قراراته بقرارات مماثلة، لا أن تفتح مجالا للمنتجات الصينية كي تجد طريقها إلى الأسواق الأوروبية.
مخاطر التمزق والتفكك لن تنال فقط من الاتحاد الأوروبي مع تطلع أحزاب شعبوية أخرى في إيطاليا أو هولندا أو غيرها من الدول، لكن الخطر الأكبر سيصيب المملكة المتحدة ذاتها، فبعدما كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إبّان مرحلة الاستعمار في القرن العشرين، تنكمش هذه المملكة لتسعى إلى لملمة أطرافها بعد "البريكست". فأسكتلندا التابعة للمملكة المتحدة تعتزم الانفصال عنها بعد إقرار البريكست، وهو ما تؤكده استطلاعات الرأي التي أجريت خلال الأيام القليلة الماضية، وآخرها يظهر بوضوح أنّ الناخبين في أسكتلندا سيصوتون بأغلبية لصالح الاستقلال عن المملكة المتحدة. ورغم أنّ حجم الاقتصاد الأسكتلندي يعادل 193 مليار يورو، فيما يبلغ حجم الاقتصاد البريطاني 2.4 تريليون يورو، إلا أنّ التأثيرات السلبية الناتجة عن استقلال أسكتلندا ستصيب الجانبين، أهمها صعوبة التنقل وحرية الحركة بينهما. وفي حين أنّ الجنيه الإسترليني هو العملة الموحدة في المملكة المتحدة، إلا أنّ لندن لن توافق على عملة موحدة مع إدنبرة حال الاستقلال. وهنا نكتشف أنّ الأزمات الاقتصادية ستتولد تباعا وأنّ تقييم الموقف في الوقت الراهن لن يقدم صورة متكاملة عن هذا الأمر، فلا تزال هناك مشكلات عالقة لم يتم حسم توقعاتها مثل تقسيم الموارد الطبيعية (نفط بحر الشمال تحديدا) والديون وعائدات التجارة واحتياطات الذهب، وغيرها.
آخر القضايا التي يفجرها "بريكست"، هي قضية آيرلندا الشمالية، فمع خروج بريطانيا ينقسم الآيرلنديون الشماليون إلى قسمين؛ الأول يريد البقاء ضمن المملكة المتحدة، والثاني سيطالب بالانضمام إلى جمهورية آيرلندا، وهي الجزء الجنوبي الأكبر من هذه الجزيرة المُقسمة. الأخطر في هذا الجانب، هو الخشية الحقيقية من عودة العنف إلى هذه الجزيرة بعد اتفاق بلفاست التاريخي المعروف، والذي أنهى سنوات من العنف والتفجيرات وراح ضحيتها الآلاف.
منبع المخاوف يأتي من قضية الحدود، فمع حالة السلام بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا، تلاشت الحدود وتعززت حرية الحركة، لكن مع خروج بريطانيا، ستكون حدود آيرلندا هي حدود بين المملكة المتحدة (التي تضم آيرلندا الشمالية) وبين الاتحاد الأوروبي (الذي يضم جمهورية آيرلندا).
خلاصة القول.. إنّ الشعبوية المقيتة هي التي فجرت كل هذه المخاوف، وهي التي تلقي بظلال بالغة القتامة على أداء الاقتصاد العالمي والأوروبي خصوصا، وأنّ التيار اليميني المتطرف لن يهدأ ولن تتقلص تأثيراته إلا بعد أن تتجرع الدول مرارة التجربة..
فبرغم التحذيرات المتتالية ما زالت هذه الشعبوية تمضي في طريقها نحو المجهول.