في معنى "ما بعد العلمانية" (2)

 

 

محمود حيدر| لبنان

مفكر ومحاضر في الفلسفة

تناولنا في الحلقة الفائتة من هذه المقالة منشأ مصطلح ما بعد العلمانية وطبيعة السجال الذي يدور حوله في المنتديات الفكرية في الغرب. وفي هذه الحلقة نعرض الى معنى العبارة ودلالاتها اللغوية والاصطلاحية.

  •  

على الرغم من حداثة ولادته، وتنوع تعريفاته، والتأويلات التي أحاطت به من كلّ صوب، فقد صار مصطلح "ما بعد العلمانية» مدار تفكير بيئاتٍ ثقافيةٍ وأكاديميةٍ وازنةٍ في الغرب. في حين غدت مصطلحات مثل «بعد العلماني» (Postsecular) أو «بعد العلمانية» (Postsecularism) شعاراً رائجاً في المناقشات السوسيولوجية والفلسفية الحديثة. ففي حقليْ السياسة النظرية والسوسيولوجيا، استخدم مصطلح «بعد العلماني» على نطاق واسع. ويمكن القول بوجه عام، أن طائفةً من المفكرين العلمانيين عكفوا على الاعتناء بهذا الشعار بغية إظهار انفتاحهم على المسائل الدينية. ولكن على الرغم من الحيوية التي اتسمت بها المناقشات الدائرة حوله فقط ظل تعريف هذا المصطلح في غاية الغموض والإبهام.

أبرز التعاريف المتداولة حول «ما بعد العلمانية» ذاك الذي يعني وصول العلمانية إلى نهايتها أو اقترابها من حتفها على أقل تقدير. وهذا المدعى يثير مشكلة القطع بمدى قربه من الصواب. مع ذلك فإن السؤال الذي يعنينا الجواب عليه في هذا الفصل هو التعرّف على ما تدل عليه عبارة ما بعد العلمانية في ظاهرها اللفظي ومضمونها المعنوي؟.

يستفاد من قراءة أولية لبعض تنظيرات عدد من علماء الاجتماع المعاصرين في أوروبا والولايات المتحدة المَيْل إلى ترجيح معنى التواصل بين طورين تاريخيين للعلمانية: طورٌ بلغ ذروته وخُتِم، وطورٌ يتهيَّأ للبدء. فالختم هنا يدلّ على نهاية حقبةٍ أدت العلمنة في خلالها مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتكيّف مع ما يناسب شروط الزمن الذي حلّت فيه. وأما البدء فيدل على حركةٍ نشطةٍ من المراجعات والنقد التي سادت الوسط الفكري العلماني، ودعت إلى رؤيةٍ جديدةٍ تتجاوز التناقض الحاد بين الشأنين الديني والدنيوي. والنتيجة التي تنتهي إليها مثل هذه القراءة هي أنّ التوصل إلى تعريفٍ دقيقٍ لعبارة «بعد العلماني» تفترض إلغاء صور التتالي (قبل – بعد) أو (تغيير النظام السائد وإنشاء نظامٍ بديلٍ للحياة). غير أن عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر (Peter Berger) ذهب إلى تعريف المصطلح بوصفه حالة وعيٍ معاصرٍ تتعايش فيه الرؤى الكونيّة للدين مع الرؤى العلمانيّة للكون. ورأى أنّ تعايش الرؤى الكونيّة الدينيّة والعلمانيّة، والتطلعات الدينيّة والعلمانية في المجتمع والسياسة، وصِيَغ فهم الديني والعلماني لحياة الفرد يولد توتراتٍ ناجمةٍ من اجتماع النقائض. وحاصل ما توصل إليه بيرغر أن السمة المميزة لفكرة ما بعد العلمانية هي أنّها تعبيرٌ عن حالةٍ من التوتر المستمر.

تواصل بين الماقبل والمابعد:

استناداً إلى هذا التعريف الأولي لا تعود ما بعد العلمانية نفياً للعلمانية، وإنما توسيعاً لآفاقها بوسائط وشرائط وأنساقٍ مختلفةٍ. فمن البديهي وفقاً لهذا الفهم، أن تكون الحالة «ما بعد علمانية» حالة استئنافٍ واستمرارٍ أكثر مما تعبر عن قطيعةٍ وانفصالٍ بين شكلين لنظام الحياة في الغرب الحديث. مثل هذه الرؤية يؤيدها الاعتقاد الشائع أن التاريخ الإنساني متكامل الأطوار ولا ينسلخ ما قبله عما يليه انسلاخاً قطعياً. لأن الماقبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. وعليه فلن تكتسب حقبة ما بعد العلمانية واقعيتها التاريخيّة ما لم تقرّ بنَسَبِها الشرعي للأصل الذي أخرجها إلى الملأ. فلو لم تكن العلمانيّة حاضرةً في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. وهذا يدلّ على أنّ ثمة ضرباً من جدليّة الحمل والولادة؛ وأنّ «ما بعد العلمانية» ليست سوى حاصل هذه الجدلية. غير أنّ ما تجدر إليه الملاحظة، أنّ النقاش على فكرة ما بعد العلمانية ما كان لينطلق على النحو الذي تشهده منتديات التفكير لولا أن بلغت العلمنة مشكلات بنيويّة في منظومتها التكوينية. لذا سيكون من البديهي القول أن من سمات ما بعد العلمانية مجاوزة ما قبلها من خلال استحداث قيمٍ جديدةٍ تقتضيها ضرورات الزمان والمكان. ومن صفات المجاوزة وأفعالها أن القائلين بهذه الفكرة يؤسسون رؤاهم على مبدأ الوصل والفصل بين «الما قبل» و«المابعد». فالفصل ضروريٌّ للتجاوز، والوصل ضروريٌّ للاستمرار والدوام. وإذاً، فالمابعد العلماني فضلاً عن أنه موصولٌ بما قبله فهو يفيد من اختبارات العلمنة ومعاثرها حتى يتسنى الانتقال إلى طورٍ جديدٍ. ومهما تكن طبيعة الاتجاهات التأويلية الناشطة حول المصطلح، فإن تأطيره وبلورته يبقى متعذراً ما لم يتم تعيين محل النزاع.

وهكذا تفترض حالة ما بعد العلمانية نشوء أسئلةٍ غير مسبوقةٍ في معرض الكلام على الأخطاء التي اقترفتها العلمنة على مدى ثلاثة قرون من اختباراتها في المجتمعات الغربية. وسنلاحظ استناداً إلى هذه الفرضية أن التجربة التاريخية للحداثة الغربية أفرزت معادلة تقول: مثلما استهلت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها المشهورة "إزالة السحر عن العالم"، افتتحت ما بعد العلمانية مسارها بمقولةٍ معاكسةٍ هي: "إزالة العلمنة عن العالم". وبصرف النظر عما إذا كان بيرغر رفع شعار الإزالة كاستراتيجية للتطبيق، أو كتوصيف لواقع بلغته مجتمعات ما بعد الحداثة في الغرب، يبقى مآل التنظير واحداً.

هذا هو بالتحديد ما يفيد معنى "إزالة العلمنة" كما استعمله بيتر بيرغر للمرة الأولى في تسعينيات القرن العشرين. فقد دخل إلى ميدان التنظير لفكرته في إطار سلسلة مراجعاتٍ فكريةٍ لتاريخ العلمنة وعلاقتها بالإيمان الديني. والجدير ذكره هنا أنه لم يكن فقط مدافعاً قوياً عن أطروحة العلمنة؛ بل كان أول من أقرّ بأنه كان مخطئاً عندما لم يعترف بأن «العالم ما زال شديد التديّن كما كان في السابق». إلا أن الدين الذي يتحدث عنه بيرغر في دراسته للحركات الدينية، هو دينٌ أصوليٌّ أولاً وآخراً. فلقد كان قلقاً من هجمة الأصوليين على النظام الحديث، ومما يسميه عودة ما قبل الحداثة إلى عالمنا المعاصر.

الباحث في علم الاجتماع والأستاذ المحاضر في جامعة كيبك الكندية جان ـ مارك لاروش، يضيف المزيد من الالتباسات المعرفية المتصلة بمصطلح ما بعد العلمانية وما بعد العلماني. يلاحظ لاروش مشكلةً لغويّةً ومعرفيّةً مركّبةً. فهو يرى أنّ إضافة اللاحقة « ـيّة» (isme) هو إشارةٌ إلى تيّارٍ فكريٍّ، وحينئذٍ تكون العملية معروفة، فذلك يتمّ بغية إعطائه معنى محدّدًا وإبراز بعدٍ أيديولوجيٍّ فيه. أما إذا كان التعبير (postsécularisme / postséculariste) [ما بعد العلمانيّة/ ما بعد العلمانيّ] فهو يلائم ما يذهب إليه التيار الأصولي في المسيحية الإنجيليّة على وجه التحديد. وهو التيار الذي يطالب برفع كلّ القيود الضيّقة عن استخدامهم العام للعقل الدينيّ. إنّ استخدام مصطلح «ما بعد العلمانيّة» للدلالة على المسلك الذي ينتهجه هؤلاء الفاعلون الدينيّون ومسلك يورغن هابرماس وشركائه، يتعلّق ببلاغة في الاختيار، إسناد معنى محدّد (restrictif) لفكرته بضمّه إلى فكرة أخرى.

 

تعليق عبر الفيس بوك