الحالم بغد أفضل في ديوان "على عجل" للمغربي عبد الله المتقي

أمين دراوشة: فلسطين

يستمر الشاعر والقاص المغربي عبد الله المتقي في مشروعه الأدبي بثقة، متنقلا بين الشعر والقصة القصيرة جداً، فبعد ديوان شعر "قصائد كاتمة للصوت" الصادر في عام 2004م، لجأ الكاتب إلى كتابة القصة القصيرة جدا، فأنتج أربع مجموعات، صعدت به ليكون من كتاب القصة القصيرة جدا البارزين على المستوى العربي، إذ تناولت قصصه الكثير من الدراسات النقدية، وكان لقصاصي المغرب الفضل في انتشار جنس القصة القصيرة جدا، نظرا لبراعة كتابها، كما إن النقاد المغاربة كانوا من أوائل المنظرين لها.

وفي أواخر عام 2017م فاجأنا المتقي بديوان هايكو الذي انتشر بقوة في البلاد العربية بنجاحات أحيانا، وخيبات غالبا.

الكاتب متمكن من أدواته، ويستخدم تقنيات الكتابة بحرفية عالية، وكما برز في القصة القصيرة جدا، ها هو يضع أقدامه في عالم الهايكو الحالم بثبات.

يعتبر شعر الهايكو الأكثر عمقا في الشعر الياباني، ويمتاز بخصائص معينة، فشعر الهايكو يبنى على لغة شعرية، ويمتاز بالاقتضاب والتكثيف، وبساطة الألفاظ، وتصاغ معانيه من الخيال المجنح، الذي يجعل متلقيه، يتوقف ويرحل بفكره إلى المعاني الجوانية لهذا الفن الشيق الذي ينقر على أعمق المشاعر والعواطف.

 

الهايكو هو "قصيدة من ثلاث أبيات، يحتوي الأول والأخير منها على خمسة من مقاطع الكلمات، والثاني على سبعة، أي أن القصيدة ككل تحوي سبعة عشر مقطعا". (1)

والهايكو شعر ياباني مصادر جماليته كما يقول عبد الوهاب المسيري نابعة من الموروث الديني الذي يختلط بالموروث الفلسفي، كعبادة الشنتو وهي أقدم العبادات اليابانية، والطاوية وهي من أهم العبادات الصينية بعد الكونفوشيوسية، وكلمة طاو تعني الطريق: "والطريق هو طريق الطبيعة، واتزان الإنسان مع عناصرها. وتفترض الطاوية أن ثمة عنصرين أساسيين في الكون لا يتصارعان، وإنما يتفاعلان أولهما هو الين: العنصر الأنثوي القابل الإيجابي، وثانيهما هو اليانج: العنصر الذكوري الرافض السالب. وعلى الرغم من اختلاف العنصرين فإن الإنسان لا يحقق السلام والتناسق إلا بأن يعيش في وئام مع كليهما، ويتبع الطريق، طريق الطبيعة". (2) والمصدر الجمالي الثالث هو بوذية زن التأملية، وهي من مدارس البوذية التي تحاول الوصول إلى جوهر البوذية ومن ثم إيصاله للجماهير، والجوهر "يستند إلى تجربة الاستنارة (بودى) التي وصل إليها بوذا. وتؤكد بوذية التأمل العلاقة بين السيد والمريد، وبهذه الطريقة ترمي إلى إيقاظ البوذا الموجود داخل النفس ليعبر عن تحقيق الذات من خلال العمل اليومي. ويمكن الوصول إلى الاستنارة من خلال ضبط النفس. وهدف بوذية الزن التأملية هو الدخول إلى قلب الموضوع عن طريق الحدس وليس عن طريق العقل. إن بوذية زن تحاول الوصول إلى قلب الأشياء الساكن، فالسكون هو أصدق تعبير عن الرؤية العميقة...فإنها حينما تتسع لتشمل الكون بأسره لا تضيق وحسب، بل تختفي كلية، بحيث يصبح الصمت أكثر بلاغة وإيضاحا من الكلمات". (3)

وفي أصول الهايكو يقول المسيري أرستقراطية وشعبية في ذات الوقت، وقام باشو بالجمع بين الموروثين. كما نادى " باشو " مؤسس الهايكو الحقيقي إلى البحث عن روح الشعر في الصدق والإخلاص، لذا استعمل في قصائده أبسط الكلمات وأقصرها.

يقول الشاعر:

" في المنفى

رجلٌ يمشي على الرَّصيف –

يأكلهُ الصَّقِيع". (4)

إن موضوعات الهايكو لا تبتعد عن الأحوال اليومية، ولكنه يتناولها بأسلوب يجعل من المألوف حالة جديدة، وفي المقطوعة السابقة نرى إن هناك رجل يسير على الرصيف كمنظر عادي، ولكن هذا الرجل يكاد يموت من البرد، فهل ذلك بسبب الفقر وعدم وجود مأوى، أم إن المقصود غربة الروح وألآمها.

وفي مقطوعة حققت شروط الهايكو تماما، يقول:

" شجرة التفاح عاريَّة

الخريفُ

بكامل أناقته"ِ. (ص 16)

من ضمن شروط الهايكو أن يتضمن الإشارة إلى زمن بذكر أحد الفصول أو اسم نبتة تزهر في فصل معين، أو قد يكون الزمن معلنا كأن نقول (صباحا، مساء، ليلا...). في الخريف تظهر شجرة التفاح عارية، وتزدادوا جمالا بعريها، وهذا يجعل القارئ ينطلق بفكره إلى ما توحي به ثمرة التفاح، فهي رمز الحياة واللذة والمتعة، كما أنه يعبر عن دورة الحياة خلال الفصول الأربعة. 

ويقول في مقطوعة أخرى:

"العنادل التي تعَّزفُ بوقار

في شجرة السَّرو –

جديرةٌ بالرَّبيع". (ص 17)

يسعى فن الهايكو إلى الشعور بالسلام والطمأنينة، والعنادل رمز المحبة والوئام والجمال، تمنح عزفها للعالم دون شروط، تهبه الفرح لذا هي تستحق الحياة عن جدارة، وتستحق أن تعيش بغبطة. ولكن هل سيتركها الإنسان في حالها؟ يقول الشاعر:

"سربٌ من العنادلِ

عاد في جوفِ الليل –

لمْ يجد الغابة". (ص 29)

وكأن الإنسان لا يعرف سوى التدمير والأذى، فهو يحرم العنادل من مأواها طمعا وجشعا، بل إنه يملأ الدنيا باأزيز طائراته الحربية، التي جعلت حتى طيور الدوري تتوقف عن العزف في الطبيعة، فالخوف والرعب التي تشعر به أنساها ما تعيش من أجله، يقول:

"طائرات الحربِ

تملأُ السَّماءَ –

نسِي الدُّوري زقزقته". (ص 14)

فالإنسان الذي خلق ليعمر الأرض يعيث فيها دمارا وفسادا، فها هو طائر الكناري مسجون في قفصه، يقول:

"فوق أرجوحة القفص

يحلمُ بشجرة الرمان

كناري كئيب". (ص 40)

ويحلم الكناري بحياته ما قبل سلب حريته، يحلم أن يعود إلى حياته الحقه، ولكن في عالم لا يعرف الرحمه، ومليئ بالقسوة، ثمة عطش وألم لدرجة لم يتذكر أحد أن يسقي أصص الورود التي ستذبل وتموت...يقول:

"في ذاكرة العطش

ما من احد

يسقي أُصص الورد". (ص 59)

وحتى الشاعر نراه وحيدا وحزينا في الليل القارس لا يواسيه غير قطة تبقى ساهرة معه فكلاهما لا يعرفان السكينة، يقول:

"في الليل البارد

أنا وقطة مشردة

نتبادل الأرق". (ص 25)

وإذا كان بعض البشر عاثوا بالعالم الفوضى، ونشروا التشتت الذي يرفضه الهايكو، فإن الشاعر يعيد للعالم اتزانه من خلال رمز العطاء دون حدود، فقطرات المحبة تهبط على قبعة الفلاح ليبدأ صباح متخم بالجمال والعمل، يقول:

"قطراتُ ندى

فوق قبَّعةِ البستاني –

صباح أنيق". (ص 33)

هذا الفلاح البسيط، الذي ينشر بذور السلام والمحبة، تفوح من بين أصابعه رائحة الجنة، رائحة الورود الشذية، يقول:

"كما تفوحُ من أصابعه

رائحة الجنَّة

البُستاني الَّذي يُشذِّبُ الوردَ". (ص 61)

ويبقى الشاعر يبحث عن طريق الوئام والاتزان، لاعنا الفوضى الرهيبة، وتشظي الإنسان، يحمل في رأسه إنسانا يعشق تسلق العلا، ويمضي صوب الشمس. يقول:

"في رأسي

شخصٌ يتسلَّقُ ربوة –

أين يمضي؟". (ص 69)

كما لاحظنا من خلال الدراسة، تشيّد قصيدة الهايكو على الإيجاز، وعدم الإسراف في اللغة، وحياكة اللحظة الإنسانية الشاعرة، فالإنسان ليس وحده مركزا للحياة بل جزء في شبكة الحياة الكلية مثله مثل عناصر الطبيعة وما تحويه من كائنات وجماد...

وهذا ما يهب شعر الهايكو التفرد والتميز عن غيره، ليكون اليوم الأكثر انتشارا في العالم.

استطاع الشاعر من خلال مقطوعاته، أن يبتعد عن الألفاظ الرنانة والمجللة، ويستخدم ألفاظا بسيطة ليصف لنا مناظره بكل فطرية دون إعمال العقل، برع الشاعر في تصوير المشاعر المتنوعة، والانطباعات التي تفور، ويحقق شروط الهايكو في صبها في قالب لا يتجاوز ثلاثة أسطر، ومكون من بضع كلامات.

 

 

الهوامش:

1- عبد الوهاب المسيري. دراسات في الشعر. القاهرة: منشورات مكتبة القاهرة الدولية. ط1. 2006. ص 247.

2- المرجع سابق. ص 249.

3- المرجع السابق. ص 250.

4- عبد الله المتقي. على عجل. فاس: منشورات مقاربات. ط1. 2017م. ص 13.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك