قسوة الحياة وفن الصعلكة

 

محمود بن محمد بن شيخان الذهلي

باحث في الأدب العربي القديم

 

تعتبر الجزيرة العربية مهد الأدب العربي القديم، فهي تزخر بكنوز من التراث الأدبي المتمثل في شعره ونثره، ويكاد يتفق متذوقو الشعر العربي على أن الشعر الجاهلي أكثر إمتاعاً للسماع، ففيه من القيم الفنية الأصيلة التي لم يحظ بها الشعر العربي الذي جاء بعده، فدقة الحس، وصدق الفن وصفاء التعبير، وأصالة الطبع، وقوة الحياة، ما يجعله أصفى تعبيراً عن نفس العربي، وأصدق مصدراً لدراسته، ودراسة شعرائه، والمجتمع الذي اكتنفه، ولقد شاب هذا العصر شيء من الغموض، وهذا الغموض نتج من أمرين، أحدهما: التحدث عن مجتمع بدوي بعيد العهد بنا، والمعلومات عنه لم تدون إلا في عصور متأخرة، فكانت الرواة تتناقل ذلك بالشفاة حتى تم التدوين، وبطبيعة الحال النقل الشفوي لفترة طويلة ربما يشوبه شيء من النقص والخلل، والتحريف والضياع، ومن هنا دفعت هذه الأسباب إلى الشك في هذا الشعر، وإلى القول والبسط في قضية الانتحال، على اختلاف المذاهب التي تطرقت إليه، بين مغال في الرأي، شاك في كل الشعر الجاهلي، وبين متعصب لا يرى وجود أدنى شك فيه، وبين النظرة المتزنة التي ترى دخول الخلل البسيط فيه، وقد تطرق إلى ذلك عدد من المستشرقين أمثال بروكلمان، والنقاد العرب أمثال طه حسين، وهذا على سبيل الذكر فهناك الكثير ممن تعمق في هذه القضية، ولا ريب بأن العصر الجاهلي وما يكتنفه من غموض نتيجة أن المجتمع كان مجتمعاً رعوياً، فلا استقرار لديهم، والظروف الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، كانت على خلاف ما نعيشه من هدوء البال.

والصعاليك فئة من الفئات التي كانت تعيش هذا المجتمع، ولها من القصائد الشعرية المميزة، ومن تعمق في كشف أسرارهم، وفتح غموض حياتهم؛ لرأى الطباع الإنسانية، التي تشع منها القيم المجتمعية التي فرضوا على أنفسهم التعامل معها، وشعر الصعاليك يعتبر وليد البيئة الواحدة، فهو نابع من المواقف التي تظهر لهم في بيئتهم، والقسوة والمعاناة التي كانوا يتعرضون لها، وتشابه الأماكن التي كانوا يقطنونها في الجبال والصحراء، له أثر في تشابه المعاناة التي يحسونها، وعلى اختلاف الفترات الزمنية التي مر بها الشعراء الصعاليك بداية من العصر الجاهلي وإلى الإسلامي فلا يوجد اختلاف بين في أغراضهم الشعرية، فالمعاناة واحدة، والأهداف التي يصبون إليها مشتركة بينهم مهما اختلف عنصر الزمان، وفي أذهان الناس صورة غامضة عن هذه الفئة، يسودها النظرة السوداوية في طبيعتهم، وحياة معيشتهم، ولا يرون أي جوانب مشرقة إلا في التلذذ بجميل شعرهم، إلا أننا نقر بما كانت تقوم به هذه الفئة من الغارات وغيرها، ولكن محور حديثنا عن الجوانب الإيجابية لهم.

وتعتبرالمرأة في كل عصر من العصور هي الوتر الحساس لأفراد المجتمع، فكيف بها مع فئة الصعاليك الذين وسموا بخشونة الطباع، وقسوة الحياة، فقد شغلت المرأة في خارطة الشعر الجاهلي النصيب الأوفر، وفئة الصعاليك على اختلاف بيئاتهم إلا أن لهم صورة مشرقة في هذا الجانب، نجليها في هذه السطور، وقسوة الصعاليك وخشونتهم، وظروف الحياة الصعبة التي فرضوها على أنفسهم، كل ذلك من المسببات التي يفترض أن يكون التعامل مع هذا الجنس بكل معنى القسوة، والفضاضة.

وفي بداية حديثنا إن أردنا أن نعرف الصعلكة فيقول ابن منظور في اللسان: الصُّعْلُوك: الفقير الذي لا مال له، وزاد الأزهري ولا اعتماد، وقد تَصَعْلَكَ الرجل إذا كان كذلك قال حاتم الطائي:

غَنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى *** فكُلاًّ سقاناه بكَأسَيْهما الدهرُ

والتَّصَعْلُكُ هو: الفقر، وكان عُرْوة بن الوَرْد يُسمى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيَرْزُقُهم مما يَغْنَمُه.

 

والصعاليك: من يتجردون للغارات وقطع الطرق، ويمكن أن نميز فيهم ثلاث مجموعات: وهي مجموعة من الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم، مثل: حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية، وأبي الطحان القيني، ومجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم، مثل: السليك بن السلكة، وتأبط شرًّا، والشَّنْفَرى، وكانوا يشركون أمهاتهم في سوادهم فسموا هم وأضرابهم باسم أغربة العرب، ومجموعة ثالثة لم تكن من الخلعاء ولا أبناء الإماء الحبشيات؛ غير أنها احترفت الصعلكة احترافًا، وحينئذ قد تكون أفرادًا، مثل: عروة بن الورد العبسي، وقد تكون قبيلة برمتها، مثل: قبيلة هذيل، التي كانت تنزل بالقرب من مكة والطائف.

وتتردد في أشعاره الصعاليك جميعًا صيحات الفقر والجوع، كما تموج أنفسهم بثورة عارمة على الأغنياء الأشحاء، ويمتازون بالشجاعة والصبر عند البأس وشدة المراس والمضاء وسرعة العدو؛ حتى ليسمون بالعدائيين، وحتى لتضرب الأمثال بهم في شدة العدو؛ فيقال: "أعدى من السليك" و"أعدى من الشنفرى"، وتُروى عنهم أقاصيص كثيرة في هذا الجانب؛ من ذلك ما يقال عن تأبط شرًّا من أنه: "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة؛ فكان ينظر إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته، حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"، وكما كانوا يحسنون العدو كان كثير منهم يحسن ركوب الخيل والإغارة عليها، ويقال: إنه كان للسليك فرس يسمى النّحَّام.

وكان يدفع الصعاليك إلى هذه الممارسات أنهم كانوا تحت مستوى الفقر، وما كان حاصلاً من انتشار الفساد في ذلك المجتمع الجاهلي من مفاسد، وانحسار المال في أيدي قليلة من الناس، وفي نظر الصعاليك أن الأخذ من هذا المال هو من حقهم فهو مال الله، وفي ذلك يقول شاعرهم:

وإني لأستحيي من الله أن أُرى ... أُجرّرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ

  وأن أسأل المرء اللئيم بعيره ... وبعران ربي في البلاد كثيرُ

 

والصعلكة لم تكن لصوصية وسلباً، وإن اتخذت من الغزو والفتك وقطع الطرق وسيلة وسلاحاً، فقد كان للصعاليك رؤيتهم الخاصة في قضايا المجتمع والوجود، وهي رؤية محورها الإنسان، لذلك آلمهم التفاوت الاجتماعي وما يجره من امتهان وذل للفقراء، ورفعة وعزة للأغنياء، قال عروة:
                                         والمال فيه مهابة وتجلّــة... والفقر فيه مذلة وفضـوح
وإيماناً بكرامة الإنسان، فضل هؤلاء المتمردون الجوع والضرب في أرجاء الدنيا على أن يكون للأغنياء يد عليهم وفضل يمنون به ويتطاولون.

وأستفُّ تُربَ الأرضِ كي لا يُرَى له ... عليَّ من الطَّوْلِ امرؤ متطــوِّلُ

ورأى الصعاليك أن العدل الاجتماعي يتجلى بالتضامن والتكافل والمشاركة في المغانم والأرزاق، فليس من حق قلة أن تشبع وتبطر، وغيرهم طاوي المعي بادي الخصاصة.

إنّي امرؤ عافي إنائيَ شِركــة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحــد

أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء، والماء بارد

وقد تجلت هذه النظرة فيما بعد في الرؤية الإسلامية لهذه القضية وذلك في قوله تعالى: }ويؤْثرون على أَنفسهم، ولو كان بهم خَصَاصةُ{، ولذلك نرى أن الصعاليك لهم رأي وتفسير لغاراتهم، وفي أخلاقيات تعاملهم، ومبرراتهم.

وقد بدأت الصعلكة في شبه الجزيرة العربية أولاً، في مرحلتها الجاهلية، وجميع النصوص الشعرية التي وصلت تشير إلى ذلك، وتحدد أمكنة كثيرة في أكناف الجزيرة العربية، ومفازاتها، وما لبثت أن توسعت المساحة الجغرافية خلال المرحلة الإسلامية، خاصة في العصرين: الأموي والعباسي، لتشمل علاوة على شبه الجزيرة العربية بلاد الشام والعراق وغيرها، وبإمكاننا أن نتعمق في الموقع الجغرافي للشعراء الصعاليك حسب الأزمنة، والتي بدايتها كانت من البادية، وهي في نظري أقوى أنواع الوجود لهم؛ لصعوبة البيئة الصحراوية، والحياة القاسية التي عاشوا فيها، فنظراً لقلة الماء في نطاق الجزيرة العربية بشكل عام، والبادية الصحراوية بشكل خاص، دفع ذلك العرب في الجاهلية إلى كثرة التنقل بحثاً عن الماء والكلأ، ومما يدل على أن ندرة الماء عند العرب من خطب جلل، فقد ذكروه في أشعارهم، ولا ننكر أن هناك أماكن يتوفر فيها المطر، ولكن ينعم بذلك فئة قليلة من القبائل التي تسيطر على هذه المواقع، مما كان له أثر في الغارات التي كانت تنشب في الجزيرة العربية، وهذا عامل من عوامل تمرد الصعاليك، فيرى هؤلاء من الناس أن غيرهم ينعم بهذه الواحات الغناء، وهم محرومون من الاستمتاع بها، والاستفادة من خيراتها، وبذلك فإن الصحراء تحوي النقيضين، فهي تشهد العواصف العاتية، والأمطار الجارفة، وموجات البرد القاسية، وفي ذلك يعاني هؤلاء الأمَرين، وحيث صور الشنفرى ليلة شديدة البرودة بقوله:

وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... واقطعه اللاتي بها يتنبل

حيث يضطر صاحب القوس إلى إشعال قوسه، ونبله التي يدافع بها عن نفسه؛ لكي يستدفئ بها من قسوة البرد، كما يصف أيضاً الشنفرى اليوم الشديد الحر بقوله:

ويوم من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ

وهنا يصور الأفاعي والحيات برغم تعودها على شدة الحر والهجير تضطرب وتتململ على شدة الشمس الحارقة.

 ولا يخفى في أن مجيء الإسلام أحدث تغيراً جذرياً في نطاق الصعلكة، عما كان عليه في الواقع القبلي السائد أيام الجاهلية، فالصعلكة هي ردة فعل على النظام الاقتصادي والحالة الاجتماعية، والمتمثلة في انعدام العدل والمساواة، فالإسلام كان له الأثر الكبير في تحقيق مبادىء العدل والمساواة وبذلك ضعفت ظاهرة الصعلكة في بدايات العصر الإسلامي، ولنتحدث تفصيلاً حول ذلك بداية بالعصر الأموي، ثم العصر العباسي، ففي العصر الأموي حدث تراجع عن المبادئ الأساس التي جاء بها الدين الحنيف، عما كان عليه في عصر النبوة، والخلفاء الراشدين، وبذلك كانت الدوافع التي تقوم عليها الصعلكة حاضرة مرة أخرى، وتعددت مظاهر الفساد الاقتصادي في العصر الأموي، ففي أخبار كثير من العمال والولاة ما ينبئ بأنهم كانوا يخونون ويسرقون، ويتصرفون في أموال أعمالهم كما يشاؤون، يشهد على ذلك ما كان بحوزتهم من أموال وما كانوا يستدينونه من بيت المال، فما كان يشغل الشعراء الصعاليك في العصر الأموي هو الفقر والغنى، والعصبية القبلية، ومسألة الثورة على الدولة، وتقويض أركانها، وقد عبر كثير من الشعراء الصعاليك عن ذلك في أشعارهم في هذه المرحلة، ومنهم الأحيمر السعدي، ومالك بن الريب، وغيرهم، وفي العصر العباسي كان للاختلال الاقتصادي والاجتماعي، وكثرة الفتن، والاضطرابات، أكبر الأثر في نشأة الصعاليك في هذا العصر؛ إلا أن حركة الصعلكة اختلفت في كل عصر من العصور، فأساليب الصعلكة تتفق مع الواقع البيئي الصحراوي الذي عاشوا فيه، وفي العصر العباسي فقد اختلفت الوسائل التي اتبعها الصعاليك في صعلكتهم، والتي تتفق مع واقعهم، وتتمثل في رفع الشكوى إلى كبار المسؤولين في الدولة، ويناشدونهم بما يريدون، وتارة يهجون ويشنعون ويلطخونهم بالعار، وتارة أخرى يحترفون التلصص احترافاً معتمدين على الحيل اللطيفة، التي تمكنوا بها من سرقة الدور والأسواق، والمسافرين.

ونظراً للظروف الاجتماعية التي كان يعيشها الصعاليك، والمتمثلة في الحياة الصحراوية والقسوة التي كانت تحيط بهم، كنقص الماء والطعام، وما أكلُ ضباب الصحراء، ويرابيعها، وأورالها، سوى مظهر من مظاهر هذا الجوع القاتل، الذي كان يعانيه عرب البادية حين يجدبون، وتتتابع عليهم السنين، وفي أخبار عروة أن أناساً من بني عبس أجدبوا في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم، وأصابهم جوع شديد وبؤس، فأتوا عروة يستنجدون به، فخرج ليغزو بهم ويصيب معاشاً، وتنتشر في شعره وأخباره مناقشات بينه وبين صعاليكه حول الجوع، الذي كان يجهدهم في غزواتهم، ويذكر الرواة أن أبا خراش الهذلي أنه أقفر من الزاد أياماً، ويحدثنا السليك بن السلكة في بعض شعره، كيف كان يغمى عليه من الجوع في شهور الصيف، حتى ليشرف على الموت والهلاك:

وما نلتها حتى تصعلكت حقبة *** وكدت لأسباب المنية أعرف

وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني *** إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك