صناعة المواهب

 

د.رحاب الكيلاني| جامعة زايد الإمارات

 

سؤال لطالما راوَد الكثير من الناس، أيهما أحقّ أن يتبع، صقل الموهبة وتدريبها ومرانها، أم ترك النفس على سجيتها وطبعها؟ على اعتبار أن الموهبة الحقيقية ستطفو على السطح عاجلاً أم آجلاً، وأن صاحب الموهبة أسير لها، تلاحقه ليله ونهاره، ولا بد أن تفرض نفسها على صاحبها فرضاً فالموهبة لا تستجلب ولا تطلب كما يقولون. غير أن أصحاب الصنعة يعرفون أن إهمال الموهبة طريق قصير إلى نهايتها وانطفاء جذوتها.. ومن هنا استمر الصراع بين الفريقين زمناً..!

الرسام والنحّات والرياضي والموسيقي لا تبرز مواهبهم إلا بالتدريب والمثابرة، والجد في التمرين، وتنمية الموهبة وشحذها، فما قيمة الفنان دون أدواته، وهل يصير نجوم الرياضة أبطالاً دون تدريب مضنٍ وتمارين قاسية؟ الشاعر بدوره لا يبزّ أقرانه إلا بالجد والتحصيل والحفظ والاطلاع، وما قصة الشاب الذي أراد نظم الشعر عن هذا ببعيدة، حيث يروى أن شاباً أتى أبا نواس يسأله كيف يمكنه أن يكون شاعراً..! فطلب منه أن يذهب فيحفظ ألف بيت من الشعر، فذهب وحفظها وعاد إليه بعد زمن، فقال له الشاعر العارف: الآن اذهب وانسَ ما حفظت، فمضى زمناً ثم عاد إليه، فقال له أبو نواس: الآن يمكنك قول الشعر.

فالشاعر في هذه القصة، امتلك بذرة الموهبة لكن إصراره على متابعتها مكنته أن يصل فيما بعد إلى نظم الشعر من خلال ما تعلمه من الأبيات الألف التي حفظها ونسيها، فتماهت مع ملكته الخاصة لتصقلها وتُنميها.

ويجد المتتبع لسير حياة كثير من المبدعين النابغين أن إصرارهم على التميز ورغبتهم الحقيقية في التقدم كانت من أهم الأسباب التي دفعتهم إلى المراتب التي وصلوا لها فيما بعد، بينما خفت نجم أقرانهم الذين كان لهم حظ من الموهبة ونصيب من الملكات في الطفولة نتيجة الإهمال وغياب الوعي بضرورة الرعاية والاهتمام بما حباهم الله به.. أو أنهم وجدوا طريقاً آخر استحوذ على اهتمامهم أكثر.

لذلك فإن كثيراً من الكتّاب الكبار في زمننا عندما يُسألون عن سر نجاحهم، تكون إجاباتهم وإن اختلفت مفرداتها تدور حول المران والمثابرة، فهم ببساطة مازالوا يتعلمون ويتمرنون.

من هؤلاء الكبار الكاتب والروائي الأمريكي (إرسكين كالدويل) الذي يؤكد في سيرة حياته الذاتية (اسمها تجربة) على مسؤولية الكاتب عن موهبته التي تستلزم منه جهداً ودأباً ومثابرة وعزيمة لا تنضب حتى تثمر في النهاية إبداعاً يستحق العيش والاستمرارية. فهو يؤمن أن الكتابة الإبداعية هي عملية تحفزها حالة ذهنية، وأن من ولدوا ولديهم الموهبة أو الذين يمتلكون دافعاً قوياً للتعبير عن أنفسهم بالكلمة المكتوبة هم وحدهم القادرون على تحقيق غايتهم.

هذا الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب، لم تكن حياته ميسرة طيّعة، بل كانت تضنيه وتتعبه، لأن فعل الكتابة كما يقول: «يعاند مزاج المرء وميوله الفطري لأن ذلك يعني البقاء في حالة من الضيق والتوتر والنكد طيلة النهار أو الليل، وأنا جالس أمام الآلة الكاتبة، بينما أرغب بالخروج من المنزل لأفعل شيئاً أعتقد جازماً بأنه أكثر إمتاعاً وإثارة من الكتابة. وهو يعني المحاولة الدؤوبة لخلق شخوص حية وأحداث ذات معنى ضمن التخوم الضيقة للعالم الصغير الذي عرفته. كما يعني أيضاً المجاهدة المضنية لترجمة الإحساس المراوغ وروح الحياة إلى كلمات مكتوبة على الورق – بحث لا نهاية له عن دقة المعاني وظلال المداليل. ليس العمل بجد هو ما هيأ لكالدويل النجاح فقط، إنما الإصرار على تنمية موهبته حيث يقول إنه كان ينكبّ يومياً 18 ساعة على آلته الكاتبة ليكتب قصصاً للمجلات والصحف لترفض كلها في البدايات إلى أن تمكن من لفت نظرهم إلى موهبته التي صنعها صناعة بجهده وتوقه ورغبته العارمة في أن يكون كاتباً.

وكما يقال: العالم يفسح الطريق للمرء الذي يعرف إلى أين هو ذاهب.

تعليق عبر الفيس بوك