الرؤية تحاور القاصّ والروائي الجزائري محمّد جعفر

...
...
...

 

  • أنا كاتب لا يبيع.
  • الكاتب الجدير باسمه هو الّذي ينكأ الجراح.
  • نعيش في زمن فيه الجميع يكتب وليس فيه أحد يقرأ.
  • الكتابة المسالمة كتابة هيّنة تساير كل كل تيّار وتنتهي بزواله.
  • الكتابة الجادّة والمسؤولة ابنة الرّهان ولا مكاسب لها غير الحقيقة والجمال.
  • النّقد عندنا لا يتابع ولا ينتج وغير عارف ولا ذائقة له فهو ابن التّنظير والمناهج.

 

حاورته: فيروز بشير شريف | الجزائر

الكاتب الجزائري محمد جعفر  من مواليد ولاية مستغانم الجزائرية 1976م؛ درس الآداب في جامعة السانية بوهران. له إصدارات في الشِعر والقصة والرواية، ويكتب المقال في الصحافة الجزائرية. محمد جعفر أصدر أولى مجموعاته القصصية بعنوان “”طقوس امرأة لا تنام”، ومن رواياته “مزامير الحجر” و”هذيان نواقيس القيامة” وأعمال أخرى... فإلى الحوار....

 

س: هل هناك قارئ معيّن يكتب له "محمّد جعفر"؟

ج: يمكنني القول إنّي أكتب لنفسي، تلك العبارة الّتي صار يردّدها الكثيرون، ولا أفهم حين يدّعون ذلك لمَ هم يولون النّشر الأهميّة القصوى؟كذلك لا يمكنني أن أقول "إنّي أكتب لقارئ معيّن أضعه في الاعتبار لحظة الكتابة، فما أمارسه إنّما يهمّني أنا شخصيّا وبشكل مباشر، وإن كان قد تشكّل لدي من قراءاتي المختلفة، ومن أفكار كوّنتها،ومن أحلام أريدها بقوّة، إنّه أنا الّذي تشكّل في النّهاية من توليفة معقّدة اكتسبت قناعات ورؤى، وأخذت تمارس حضورها الطّاغي في كلّ ما أكتبه،وأمّا حين يصدر أيّ عمل لي فإنّي أظلّ أبحث عن صداه لدى القرّاء،وإن كنت أفهم أنّ فعل القراءة نفسه يخضع لاعتبارات عديدة منها ما له علاقة بمستويات القراءة نفسها، فما يهتم له المراهق أو الشّاب غير ذلك الّذي يعني القارئ النّخبوي أو الأكاديمي، كذلك تمارس الدّعاية (الإشهار و الجوائز والنّقد) دورها، وتسعى بشكل مقصود أو غير مقصود في تغليب نصوص معيّنة على أخرى، لكنّي في الأخير أعتقد أنّ الكتابة الجادّة ستصل لقارئها النّوعي، القارئ الّذي يعنيني، طال ذلك أم قصر.

***

س: في آخر إصدار روائي لك، والموسوم بعنوان"لابوانت...جدوا قاتلي" الصّادر عن "الدّار العربيّة للعلوم ناشرون." يلمس من قرأ العمل رغبتك في خلق تفاعل بين الجانب الإبداعي بما فيه من جماليّات، والآخر المعرفي الرّامي إلى النّهوض بالوعي ومواجهة السّلطة بحقائق تاريخيّة قد ينصرف عن كشفها كتّاب غيرك كثيرون؛ فهل نفهم من ذلك بأنّ الكتابة بالنّسبة "لمحمّد جعفر"هي نوع من أنواع النّضال،وتبرئة للذّمة أمام الوطن والتّاريخ؟

ج: الكتابة المسالمة، كتابة هيّنة تساير كل كل تيّار، وهي تنتهي بزواله، والمراهن عليها لا يعكس الأزمة الّتي من المفروض أن يعيشها كل مبدع معجون من الهشاشة والضّعف. تلك الأزمة الّتي تولد لديه جملة من الأسئلة المستعصيّة، والّتي يمنح البحث فيها الجدوى من فعل الكتابة، ومن الحياة نفسها.

يفضّل الكاتب المسالم العيش على التّخوم لما في ذلك من مكاسب، وأبدا لن يقدر على فقأ عين الحقيقة؛ وعلى العكس منه فإنّ الكاتب الجدير باسمه هو الّذي ينكأ الجراح، كاشفا عن قيحها وصديدها، فلا يعنيه غير السّعي وراء الحقيقة المسالمة و الخادعة الّتي يرفل الجميع تحت شمسها. كذلك وهذا رأيي، أنّه ليس على الكاتب أن ينصّب نفسه كأحد أقطاب الصّراع، لأنّه وحينها ستتلوّن كتابته بلون الإيديولوجيّة، ونحن نعرف أنّ مقتل الكتابة الجادّة تبنّيها للمواقف والسّياسات، وأمّا أن تنطلق من موقع أنّك كائن حر ومسؤول، وتنتصر للإنسانيّة والحبّ والجمال، وتلتزم بما تراه بعيدا عن فكرة أن تكون متخاذلا، طيّعا، خادما لأجندة من الأجندات فذلك ما يمكن أن أسمّيه بالكتابة الجادّة والمسؤولة، فهي ابنة الرّهان ولا مكاسب لها غير الحقيقة والجمال اللّذين تنشدهما.

في عالمنا العربيّ لم يستوعب الكثيرون أن يكون المثقّف في الريّادة لا تابعا، وأنّ وظيفته في كل الأحوال هي النّقد في الأساس، نقد السّياسات ونقد المجتمع والأعراف والتّقاليد ونقد النّقد نفسه،ليكون الكائن الّذي يعجبه شيء، وليكون الكائن المجبول على الرّفض والصّراخ؛ مع ذلك أحب أن أضيف أنّه لا يمكننا أن نحمّل هذا الكاتب أو المثقف مسؤوليّة النّضال كمفهوم،هذا في الوقت الّذي نرى فيه الجميع ينتكص مغلّبين مصالحهم الصّغيرة والشّخصيّة على الهمّ الجمعي والمشترك، ومن ثمّ نحمّله مسؤوليّة كل ما يحصل في عالمنا العربيّ.

إنّه نعم مسؤول، لكن أمام نفسه بالدّرجة الأولى، فهو ليس مطالبا بشيء فوق طاقته ومقدراته، ويكفيه كنضال أنّه يركض وراء الوظيفة ويسعى ليؤمّن لنفسه ولعائلته أبسط ضروريّات العيش، ثمّ يعكف على طاولته سارقا من راحته ليكتب لنا، وأعتقد أنّ تلك هي الحقيقة الّتي يجب أن يراها الجميع.

***

بعيدا عن الصّورة النّمطيّة لشخوص الرّوايات الغارقين في المثاليّة، تظهر شخوص روايتك الأخيرة بكل ما يمكن أن يتّصف به الآدميّ من انحطاط وتناقض وقدرة على التلوّن والكذب والتّدليس. الآن...هل يظنّ "محمّد جعفر"بأنّ القارئ سيتقبّل البطل الخائن لوطنه، البائع لضميره، وسيتفهّم اختياراته،ويتفاعل مع ماسيمرّبه من تجارب وأحداث مختلفة في الرّواية؟

ج: الحالة الإنسانيّة حالة خالصة من التّعقيد واللّبس، ومحاولة إدراكها والإحاطة بها فيها الكثير من الإجحاف والتنكّر. ما أحاول القيّام به في رواياتي هو معايشة تلك الحالات، ملامستها، الإنصات إليها، ومن ثمّ تأتي الكتابة، فهي آخر حلقة في تعاملي مع شخصياتي الرّوائيّة، والّتي لا تنزع إلى صفة واحدة إنّها متعدّدة، وهي بحجم العالم الّذي تعيش فيه، وأحيانا تتجاوزه ما دمنا رهن محيط تأسره وتحكمه الأسوار والحواجز والمتاريس.

لا نملك أن نقسّم النّاس إلى أخيار وأشرار. هذا لا يحدث في قصص الجدّات فقط، والعالم والإنسان مليئان بالالتباس حتّى أنّه يتداخل فيهما كل شيء؛ كذلك فإنّ الإنسان ابن الضّعف أكثر منه ابن القوّة، وتخاذله وجبنه وتلوّنه وخياناته هي وليدة هذه الطّبيعة وإن ليست مبرّرة في المطلق، مادمنا نحتكم إلى عالم ترعاه القوانين والأعراف والنّبالة والإنسانيّة.

 

س: طرحك لمسائل حسّاسة في رواية"لابوانت...جدوا قاتلي"، كمسألة تزييف التّاريخ، واستغلال الشّرعيّة الثّوريّة من طرف أشخاص معيّنين لخدمة مصالحهم الخاصّة.. ألم يجعلك تفكّر في احتمال تعرّضك للتّخوين و الإقصاء المتعمّد من بعضهم؟

 

س: التّخوين والإقصاء أتعرّض لهما منذ نصّي الأوّل "ميدان السّلاح"، ولعلّكِ لاحظتِ أنّي أكثر كاتب لا يدعى للملتقيات والمناسبات الثّقافيّة، وإن كنت أحرص في بعضها الآخر على توفّر بعض الالتزامات من قبل الدّاعين، وأذكر أنّه في عام ٢٠١٥ وحين صدرت روايتي "مزامير الحجر" اهتمّت بها دكتورة، وحاولت وبمجهود منها أن تحتفي بها من خلال تنظيم لقاء على مستوى إحدى دور الثّقافة. قلت لها: "إنّي مستعدّ، وإن كنت أتوقّع إلغاء اللّقاء بطريقة ما.

"ولأنّ المنظّمين اهتموا بفكرتها، وقدّموا موافقتهم، عادت إليّ وأخبرتني أنّ كل شيء بخير، وأنّه عليّ أن أتخلّى عن شكوكي، قلت:"لن أفعل؛ ليس قبل أن يتمّ اللّقاء." وقبل يوم واحد من اللّقاء المزمع تنظيمه، تقرّر إلغاؤه، وحين سألت هي عن الأسباب لم تبلغ بأيّ سبب، سوى أنّ المسؤولين ودون أن يُذكروا بالأسماء أمامها، لا يرغبون فيه، ناهيك عن لقاءات عديدة تتمّ على مستوى الجامعات والمديريّات الثّقافيّة، ورغم أنّه يقوم عليها أصدقاء ومقرّبون فإنّهم يتعمّدون التنكّر لاسمي ،فيما أفضّل أنا عدم إحراجهم مادام خطابي لا يوافق هوى المسؤولين عنهم ،والّذين هم من الواضح حريصون على مناصبهم أكثر من حرصهم على تقديم خدمة جديرة باسمها للثّقافة، ثمّ هناك طابور كبير من الكتّاب والّذين تتوفّر فيهم المواصفات الّتي يريدونها، فلماذا الخشية والقلق أو الاهتمام بي ككاتب تحديدا؟ لكن أعتقد أنّ مواصلة هذا الجهد عن قناعة وبمسؤوليّة كاملة هو الأهمّ، وهذا ما أحاول القيام به كالتزام شخصيّ.

***

س: هل يثق"محمّد جعفر"بالنّاقد أم بالقارئ؟

ج: سأحاول أن أكون صادقا معك. أعتقد أنّنا في الجزائر لا نملك لا النّاقد ولا القارئ، أو ما نملكه قليل حتّى أنّه يصعب الاعتبار به. والملاحظ أنّ قارئا بسيطا يملك بعض الأبجديّات في كتابة نص قارئ لنص إبداعي يمكنه أن ينصّب ملكا على النّقد لغياب هذا الأخير.

النّقد عندنا لا يتابع ولا ينتج، وقبل هذا وذلك غير عارف ولا ذائقة له، فهو ابن التّنظير والمناهج يسارع إلى تطبيقها على كل النّصوص بالتّساوي، وهو ابن المسطرة نص به عيوب وقاصر، ثمّ ما لا أتمنّاه حقّا أن يكتب ناقد عنّي فيعلي نصّي وأصدّقه، ليطلع في الغدّ بدراسة في عمل آخر أراه ضعيفا غير ناضج ويكون كل ما يتوفّر فيه هو تلك المقاييس الّتي حدّدتها مسطرة النّقد الّتي يملكها في يمينه، والأمر نفسه ينسحب على القارئ، فهو غير محصّن وغير عارف بالنّصوص وغالبا يركض وراء المتعة والحكاية فإذا خلت الكتابة منها اعتبرها ضعيفة، وهو هوائي ومزاجي غالبا ما يتأثّر بآراء الآخرين، وليس في رصيده تلك المعرفة الّتي يمكّنه الاستعانة بها ليتفاضل بين النّصوص.

***

س: هل تظنّ بأنّ الحركة النّقديّة في الجزائر بصفة خاصّة، والعالم العربيّ بصفة عامّة تخضع هي الأخرى لوصاية السّلطة، الّتي تجعلها في الأخير تروّج لإصدارات معيّنة دون الأخرى؟

ج: النّقد هو المعرفة المنتجة وليس الشّخوص الّذين يقومون بالعمليّة النّقديّة، وهو المخابر وليس الأفراد، وجارٌ مثل المغرب أعتقد أنّه نجح تماما في إرساء منظومة يحتفى بها عربيّا وعالميّا، فهل يمكنكِ إحصاء ناقد جزائري واحد يكون لرأيه عربيّا دور المؤثّر والفاعل؟ لا أعتقد أنّنا نملك نخبة من هذا النّوع، وأمّا أن يكون النّقد خاضعا للوصاية، فأعتقد أنّه مثله مثل أيّ شيء آخر في العالم العربيّ، فكلّه رهينة إلّا ما رحم ربّي.

وأمّا التّرويج لإصدارات دون غيرها فهو يخضع لاعتبارات عديدة، ولعلّ الوصاية جانب فيها لكن لا يجب أن نغفل عمّا تفعله العصب والانتماءات الجغرافيّة والمحاباة وتبادل المنفعة، وأعتقد أنّها أمراض أخطر لأنّها تؤدّي بها وكما هو حاصل إلى تسيّد الطّالح، وكثير من الكتابات المروّج لها، وكما هو ملاحظ لايمكنها أبدا أن تكون بمستوى أخرى تظلّ مغمورة ومقموعة لا صوت لها، بحيث أنّ القارئ العاديّ لا يمكنه الانتباه إليها.

***

 

س: في إحدى اللّقاءات التّلفزيونيّة سُئل "طه حسين" عن رأيه في أدب الجيل الجديد آنذاك، فكان ردّه كالآتي: "أتمنى دائما للكتّاب بأن يقرأوا بمقدار ما يكتبون، وأن يقرأوا قبل أن يكتبوا، وآخذ عليهم أنّهم قليلو القراءة جدّا، ولا يحبّون التعمّق في شيء. أيّ هؤلاء الكتّاب الجدد قرأوا الأدب العربي القديم؟ ومن منهم يعرف لغة أجنبيّة؟

ج: أظنّ أنّ من يقرأون أدب هذه اللّغة أو بعض ما ترجم إلى هذه اللّغة من آداب اللّغات الأخرى، أظنّ هذا نادر جدّا، وعلى كل حال مايكتبون لابدّ له من ثقافة واسعة وعميقة."

***

س: تعليقك؟

ج: الوضع بات أنكى وأمر عن الوقت الّذي تحدّث فيه "طه حسين"، وعن الكتّاب الّذين كان يتقصّدهم من خلال حديثه، والعجب أنّ هناك من الكتّاب الشّباب اليوم من يفاخر بأنّه ينشر أعمالا أدبيّة دون أن يطالع بدوره أيّا منها! وبعضهم يكون جزائريّا ويرمي بما كتبه في السّوق الجزائريّة، وحين تسأله لمن تقرأ من الجزائريين؟ يخبرك بكلّ صلافة وعمى أنّه لا يقرأ لهم، وإن كان بلا حجّة وضعيفها في المجمل، مادام لا يمكنه ذكر ولا مؤلّف واحد للطّاهر وطّار، أو رشيد بوجدرة، أو غيرهم من الكتّاب... حتّى بتنا نعيش في زمن فيه الجميع يكتب، وليس فيه أحد يقرأ. وإن كنت أجزم أنّه لا كتابة دون قراءة، وأنّ الكتابة العميقة والجديرة باسمها لابدّ أن تعتاش على القراءة والقراءة والقراءة... .

***

س: ماذا تعني لك هذه العبارة:"الكتاب الأكثر مبيعا."؟

 

ج: أعتذر، هذا السّؤال لايعنيني، فأنا كاتب لا يبيع.

تعليق عبر الفيس بوك