"العاشق الأندلسي" أبو همام وذكرى تتجدد

 

 صبرى الموجى|  جريدة الأهرام

 

التقيتُه أولَ مرة بحديقة دار العلوم بجامعة القاهرة، منذ أكثر من عشرين عاما، مُتجها صوب سُلم الباب الرئيسي للكلية، مُمسكا بعصاة يتوكأ عليها ليس عجزا بل خُيلاء، مُتلفعا بكوفية من الصوف الخشن زادته إلى جانب البهاء وقارا، كان أشعث الرأس، تُشعُ عيناه ذكاء وإشراقا، ووجهه وضاءة وحيوية.

اعتراني الوجلُ من منظر شعره غير المُرجل، فأسرعتُ أسأل من بجواري عنه،  فأخبرني أنه الشاعرُ أبو همام تلميذ العقاد النجيب، الذي تأثر به أيَّما تأثر، فماثله لدرجة التقمص هيئة وهنداما، مشية وحديثا، أدبا ولغة،  فصاحة وبيانا.

لم تمض إلا أيامٌ، وجمعتنا به قاعةُ الدرس، التي امتلأت بالطلبة والطالبات، حتي إنه لم يكن بها موضعٌ لقدم أزيد من الحضور، ورغم أن الجلبة مظنة الزحام، إلا أن محاضرة أبي همام، كانت أمرا مُغايرا تماما، فكان الصمتُ يخيم علي الجميع، ويسود المكان سكونٌ  لا يكسره إلا صوتُ الجبل الأشم أبي همام، حيث تنسدل من بين شفتيه قصائدُ أشبه بشدو العنادل، زاد من جمالها أداؤه العذب، وصوتُه الرخيمُ الحادب المُمتلئ قوة مصحوبة بالدفء.

كان صوتُ أبى همام - طيب الله ثراه وهو يُلقى قصائده - يُزلزل جنبات القاعة، ويعودُ بنا إلى زمن المتنبى وبشار وأبى تمام، وكانت محاضرته أشبه بسوق عكاظ مُلتقي الشعراء والأدباء من كل حدب وصوب؛ لينشدوا فيها قصائدهم وأشعارهم، إذ كان يُلقي قصائده ويستمع إلي طلابه، مُقوما المخطئ بحنو منقطع النظير، ومُشجعا المجيد تشجيعا يجعله يخال نفسه أضحي أميرا للشعراء.

كان رحمه الله ذا أسلوب شائق، وعرضٍ للقضية رائق، حيث دأب على الغوص فى لُجج اللغة والأدب ليخرج لطلابه دُررا ولآلىء، تُثيري مخزونهم الأدبي، وتُنمى ذائقتهم الشعرية والنقدية.

وحيث إن وقت المحاضرة لم يكن يتسع لنروى ظمأنا من معين أبي همام العذب، فكنا نقتفى أثره حذو القُذة بالقُذّة، حيث تنعقد ندواتُه، وتُقام أمسياتُه بالمتاحف والصالونات في شتي ربوع المحروسة.

ود. عبد اللطيف عبد الحليم، المُكنى بأبي همام، والمعروف بالعاشق الأندلسي ولد بمحافظة المنوفية عام 1945م، حفظ القرآن وهو دون العاشرة، والتحق بمعهد شبين الكوم  الأزهري، ثم بكلية دار العلوم التي تخرج فيها  وعمل معيدا 1970م، ثم سافر في بعثة إلى (مدريد)، حصل فيها على الليسانس والماجستير والدكتوراه، ثم عاد ليعمل أستاذا ورئيسا لقسم الدراسات الأدبية بدار العلوم.

تتلمذ على يد العقاد، وشيخ المحققين أبى فهر محمود محمد شاكر، فأسهما فى تشكيله الثقافي والفكري.

 عمل رئيسا لمجلس إدارة جمعية العقاد الأدبية، كما كان عضوا باتحاد الكتاب، ولجنة ترقية الأساتذة بالمجلس الأعلى للجامعات.

ألَّف ستة دواوين شعرية منها: الخوف من المطر، وهدير الصمت، وأغاني العاشق الأندلسي، فضلا عن العديد من الكتب والدراسات منها: المازنى شاعرا، شعراء ما بعد الديوان، وغيرها.

وعن مجمل جهوده فى الترجمة الإبداعية، حصل على جائزة الدولة التشجيعية، كما حصل على جائزة البابطين فى الشعر، واختير عضوا بمجمع اللغة العربية  2012م .

عاش أبو همام رحلة طويلة من العطاء أثرى خلالها مكتبة الثقافة الأدبية بالعديد من المصنفات، التي أثبتت ريادته في ميدان الشعر والأدب، ثم توقف الربان عن التجديف، وترك حياتنا فى صمت، حيث أسلمت روحه إلى بارئها الثلاثاء 16 ديسمبر 2014 م عن 69 عاما، تاركا وراءه نفوسا مُلتاعة، وشرخا في جدار الأدب والشعر لن يصلحه الزمن .. فرحمه الله رحمة واسعة، وألهمنا ولغة الضاد بفقده صبرا وسلوانا.

تعليق عبر الفيس بوك