المؤتلف الإنساني

 

د. صالح الفهدي

في عام 2001، توصلت اليونسكو إلى استنتاج مفاده أن ظاهرة اضمحلال القيم الإنسانية قد أصبحت واقعا لابد من تحرك يهدف إلى معالجته، فعقدت مؤتمرها الفريد "القيم إلى أين" مستضيفة لأجله واحدا وعشرين خبيرا من دول عديدة، ثم كلفت جيري فروم للإشراف على كتاب حمل عنوان المؤتمر.

إن المنظمة العالمية لم تكن لتصل إلى هكذا استنتاج إلا لأنها لامست واقعا إنسانيا شحيحا، بدءا من قمته إلى قاعدته، حتى أن رؤساء بعض الدول الكبرى اليوم لا يصونون ألسنتهم من وصف بعضهم البعض بأقذع العبارات، وأقبح الصفات، وفي هذا يقول أوليفييه روكوان، الخبير السياسي والأستاذ في العلوم السياسية: "كان الاحترام والأخلاق في الماضي هما أساس قواعد اللعبة في المعاملات الدولية، أما الآن فقد تدهورت أخلاقيات المناقشات وآداب الحوار".

وإذا كان هذا مستوى خطابيات رؤساء دول يفترض بهم أن يتحلوا باللغة الدبلوماسية المهذبة، التي تستخدم الكنايات والتوريات فماذا سيكون مستوى خطاب الرعاع من شعوبهم؟! وفي جانب آخر، نجد أن من يصبح رمزا للسلام، هو ذاته يمسي رمزا للإبادات الجماعية كمثل رئيسة مانيمار..! وفي شتى بقاع العالم تتنامى ظواهر الاستعداء، والإقصاء، واستخدمت الأديان أداة للمتطرفين لسفك دماء الأبرياء، وتدمير الأوطان، وإحراق الأرض، وغمْرها بالضغائن، والكراهية. ولم يسلم وطن في داخله من الفتن، والاحترابات، والصراعات، والتخاصمات التي تنشأ بسبب ضيق الأفق الإنساني، وضعف البصيرة الإنسانية إلا قلة من المواطن الأريبة.

في مواجهة كل هذا الزخم الشنيع من الهياج الإنساني الطافح بالعدوانية، والخارج عن حدود العقلانية والرقي الحضاري الذي لا يتوافق مع الشعارات الحضارية للمستوى الذي وصله إنسان القرن الواحد والعشرين، تتقدم السلطنة بمشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني، إلى العالم وذلك في مؤتمر دعا له رؤساء منظمات عالمية، وممثلون لمختلف الكيانات السياسية والدينية والاجتماعية، حيث أعلن معالي الشيخ عبدالله بن محمد السالمي وزير الأوقاف والشؤون الدينية عن المشروع، وقابله المؤتمرون بالترحاب نظرا لأنّه يأتي في توقيت مناسب، وهو ما اجتمعت عليه أغلب كلمات المدعوين.

ولم يكن المشروع بغريب على شخصية جلالة السلطان فهو رجل السلام في العالم، فالمشروع يتواءم مع توجهاته، بل وحتى لنظرته لنفسه –حفظه الله- إذ يقول جلالته في لقائه مع جريدة السياسة الكويتية بتاريخ 11 فبراير 2006:"أشعر بأني صاحب رسالة، ولست صاحب سلطة"، الفرق أنّ صاحب الرسالة يفكر في الآخرين، وصاحب السلطة يفكر في نفسه، صاحب الرسالة يُعنى بترسيخ القيم العليا بين بني البشر، والسعي إلى تآلفهم وتعاضدهم لإعلاء مفاهيم العلاقات الإنسانية، أمّا صاحب السلطة فكل همّه يكمن في ترسيخ دعائم سلطته كيفما كان المسعى، وأيّما كانت النتيجة، صاحب الرسالة يعني بتطبيق الشرائع السماوية التي ترتكز على الأخلاقيات السامية، أمّا صاحب السلطة فيكرّس نفسه على تطبيق الميكافيلية – نسبة إلى نيقولا ميكافيلي (1469-1527 ميلادية) صاحب كتاب الأمير في عصر النهضة الأوروبية- وهي شريعة تقوم على بسط السلطة بالقوة.

العالم اليوم أضحى بحاجة ملحة لفكرة سامية كفكرة هذا المشروع الإنساني الرائد من أجل الائتلاف أي التوافق، وهو حالة لا يمكن تحققها إلا بالاجتماع على فكرة سامية تؤسسها القيم الإنسانية المشتركة، ثم إن مبلغ الحضارة الإنسانية لا يتحقق بفضل الملك المادي، والقوة العسكرية، والنفوذ الاقتصادي، فهذه كلها عدة ناضبة، وإنما يقوم على عدة متجددة، تعتبر بمثابة القوة العظمى لأي شعب حينما يفتقر إلى الموارد المادية، وهذا ما أوضحه جلالة السلطان في العيد الوطني العاشر 18 نوفمبر 1980 حين قال: "كنا فقراء في كل شيء، لكن كنا أقوياء في أصالتنا وعقيدتنا وفي عزمنا وإصرارنا على النجاح رغم كل العراقيل والعقبات التي كانت تعترضنا".

هذه القيم الروحية هي القوة الأصيلة للشعوب، لأنها نابعة من روح الثقافة المتجذرة في الهوية الوطنية، وليست أمرا عارضا، أو حدثا طارئا، وهو ما تنخدع به بعض الدول في ظنها أنها تمتلك القوة المادية التي لا يمكن أن يقف في وجهها الآخر الضعيف في عدته المادية، لكن التاريخ أثبت عكس ذلك، وما كان لدولة الإسلام أن تقوم وهي فقيرة بالمعنى المادي للعدة والعتاد، لولا أنها تملك العتاد الروحي السامي، وهذا ما نبه إليه أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب أحد قادة جيشه: "إن هزمت فليس لقوة في عدوك، وإنما لضعف فيك" فأما القوة التي يقصدها فهي قوة السلاح، وحجم الجيوش، والمكنة المادية، في حين أن القصد من الضعف هو الروح الإيمانية التي تتداعى في لحظة تردد، وخوف من هول القوة العسكرية لجيش الخصم.

إن الفكرة التي يطرحها مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني في غاية الرقي والسمو مفادها: أيها العالم، يا أبناء آدم وحواء، تعالوا معا نجتمع حول قيم إنسانية مشتركة لا يمكن إطلاقا أن نختلف عليها إن كنا اختلفنا في شرائعنا الدينية، وتوجهاتنا الفكرية، ومذاهبنا السياسية، ورؤانا الأيديولوجية، فالقيم الإنسانية ستجمعنا حتما إلى مؤتلف واحد، عماده العدل والأخلاق والعقل.

إنّ الباعث على المشروع هو التفاؤل بإحداث التغيير، على سياق قول المسرحي الراحل سعدالله ونوس: "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ"، وهكذا تتجدد آمال الإنسانية، وتنتعش روحها التائقة إلى السلام والتسامح والوفاق بمثل هذه المبادرات السامية، التي تنتصر للقيم العظيمة الجامعة على أسس المحبة والتعاون والعيش المشترك.