مدرين المكتومية
عندما نشعر بالوحشة والغربة في الحياة، وعندما ينفض عنَّا الأصدقاء والأحبة، وعندما نصل إلى حواف العُزلة، نكون في أمس الحاجة إلى ما يروي ظمأ الروح، ويسقي أجسادنا المُتعبة بمداد من فيض لطيف، فتكون الموسيقى خيارا رائعاً، نُسكت به آهات النفس، وتنهدات القلب، ورجفة اليدين، وحيرة العينين..
الموسيقى غذاء للروح، بها نمنح أنفسنا هدنة من ضغوطنا النفسية والمعنوية، ونخفف من قسوة الحياة علينا، تمرح بها قلوبنا مع كل معزوفة تنطلق من أعماق الآلات الموسيقية، تتقافز أرواحنا سعادة وفرحة مع إيقاعاتها، وتتداخل مشاعرنا مع نغماتها. وفي كل مرة استمع فيها إلى الموسيقى بإنصات، أنزع عن نفسي عباءة الضغوط الحياتية، وأمزق مشاعر الإحباط التي تلف عنقي، فأشعر كأني وُلدتُ من جديد، وكأن روحي اغتسلت من همومها ونفضت عنها غبار الضيق والملل.
استمع إلى الموسيقى كي أطرب آذاني بسيمفونية الروح- أو هكذا أُسميها- تلك المعزوفة التي لم استمع إليها كاملة إلى اليوم، لكني وجدتها في أعمال الموسيقار النمساوي خالد الذكر لودفيج فان بيتهوفن، ذلك العبقري الذي ألَّف أروع المعزوفات العالمية التي لا تزال حتى الآن تعكس فرادة واستثناءً لا مثيل له، وهو أحد رواد الحركة الموسيقية في العالم، وخاصة في الحقبة الكلاسيكية التي سبقت المرحلة الرومانسية.
موسيقى بيتهوفن المذهلة الوحيدة القادرة على احتوائي، واحتضاني بين الدو والري، تنعشني وأنا انطلق برشاقة مع الفا والصولاسي، أشعر حينها أنَّ الأقدار تلقي بروحي خارج الزمكان، فتتلاقفني أقدار أخرى تسبح بي في أفلاك لا نهائية من السعادة والبهجة، فاكتشفُ سحر الموسيقى وروعتها، وأهيم شوقاً مع كل لحن يُطرب آذاني. أخصُ بالذكر هنا السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التي تناديني لتخبرني بأنَّ الحياة بلا موسيقى كجسد بلا روح، يعاني فقر الإحساس وانعدام المشاعر وعدمية الوجود!
الموسيقى حالة شعورية عصية على التعبير، حالة تحرك المشاعر، فإما أن تجعلني أبكي بحرقة أو أضحك بقهقهات صاخبة، إنه جنون الموسيقى، ذلك الجنون الذي يدفع بالمرء حين يستمع إليها إلى حالة من اللاوعي، فنشعر وكأن العالم من حولنا حطام ونحن فقط من يعيش على هذه الأرض!
هكذا هي الموسيقى تفقدك الصواب لكنها تعيدك لرشدك أيضًا، إنها مجموعة من التناقضات الغريبة، وما أروع التناقضات عندما وصفها ملك الشعر العاطفي نزار قباني حين كتب: "فماذا تسمّينَ هذا التشتُّتَ// هذا التمزُّقَ// هذا العذابَ الطويلا الطويلا// وكيف تكونُ الخيانةُ حلاًّ؟// وكيف يكونُ النفاقُ جميلا؟".
وعندما ألف بيتهوفن تلك السيمفونية الأسطورية، فقد كان يعيش مرحلة من مراحل عمره الأكثر ألماً والأكثر ضياعا ودمارا، كان كل شيء من حوله يشعره بأنه لا يملك شيئا وأنه وحيد في عالم يزدحم بالآخرين؛ حيث فقدَ سمعه لكنه رغم حالة الصمم التي عانى منها، كان يكمل نقصه بالموسيقى التي عشقها أكثر من روحه، إنه عاشق ظل طيلة حياته يبحث عن نصفه الآخر؛ الموسيقى. والحياة وبرغم ما قدمته لبيتهوفن من نجاحات لكنها أخذت منه الكثير من السعادة التي يظن الآخرون فيها عكس ذلك، معتقدين أن الشهرة تمنحهم كل ما يريدونه غير مدركين أن الشهرة في كثير من الأحيان تسلبنا كل شيء جميل وتحرمنا من أبسط الحقوق، حتى حق الحب.
إنّ أي فنان أو موسيقار أو كاتب يظل طوال حياته ليس ملكاً لنفسه وإنما يسير وفق إيقاع الحياة وما يمليه الزمن عليه والبشر من حوله. يمكنني القول إنني وبعد قراءة بعض تفاصيل حياة بيتهوفن، فإن هذا العبقري ألف السمفونية التاسعة لرغبته الشديدة في التعبير عن ذاته، وأعتقد أنه عندما صاغها كان يمر بأقصى لحظات السعادة أو أشد لحظات البؤس والألم، ولكن كل المعطيات تشير إلى أن تلك المقطوعة بطريقتها التصاعدية في بعض الأحيان تدل على أنَّ بيتهوفن لم يجد وسيلة أخرى لإيصال إحساسه في تلك اللحظات إلا عبر الموسيقى، لذلك تظل الموسيقى حالة لا تفهم فعلا.