حاتم الطائي
◄ لم نستطع توظيف النجاحات الكبيرة في السياسة الخارجية لتعميق الاقتصاد ونموه
◄ تطوير الاقتصاد يبدأ بتبسيط الإجراءات وعودة رؤوس الأموال المهاجرة
◄ تحدي الباحثين عن عمل يتطلب إجراءات جريئة وسياسات حاسمة
أسابيع قليلة ونبدأ عامًا جديدًا مليئا بالتحديات، زاخرًا بالفرص أيضا، عام يمثل سنة الفصل بين رؤية استراتيجية على وشك الانتهاء "عُمان 2020" ورؤية مستقبليّة جديدة نترقبها بتمعنٍ "عُمان 2040"، والرابط المتين بين الأولى والثانية هو الاقتصاد، بكل تفصيلاته من نمو وإنتاج وعمالة وحكومة وقطاع خاص ومشروعات واستثمارات وطنية وأجنبية.. فالاقتصاد هو قطب الرحى في أي مسيرة تنموية، وعمود بناء التقدم والبناء.
وانطلاقا من هذه الأهمية الكبرى، لا بديل من أن نضع- حكومةً وقطاعا خاصا- الاقتصاد في صدارة سلم الأولويات، وأن تكون أهداف نمو الاقتصاد وتوسعته بالمقدمة في كل خططنا وإستراتيجيّاتنا؛ إذ يجب أن يكون الملف الاقتصادي شغلنا الشاغل خلال المرحلة المقبلة، والمتكأ الذي نرتكز عليه نحو مزيد من التقدم والتنمية. فرسم ملامح واضحة لمسيرة نهضتنا خلال السنوات المقبلة يستدعي فورا وبأسرع طريقة أن نمهد الطريق لانطلاقة اقتصادية قوية، انطلاقة تتجاوز ما يعانيه اقتصادنا من انكماش على مختلف الأصعدة، انطلاقة تسهم في جذب المزيد من الاستثمارات وتوجيهها نحو الاستثمارات الاستراتيجية، فافتتاح مطعم عالمي هنا أو مركز ترفيهي هناك لا يمكن بأي حال أن نطلق عليه مسمى "استثمار استراتيجي"، نريد استثمارات استراتيجية تحدث تحوّلا نوعيًا في توجهات الاقتصاد، بما يصنع النمو المأمول، لاسيّما في القطاعات غير النفطيّة، التي بالفعل تزخر بالعديد من مقومات النجاح لكنها غير مستغلة، رغم مرور 49 عامًا على نهضتنا المباركة.
والخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- دائمًا ما يحمل في طيّاته الكثير من المضامين الداعية لتنويع القاعدة الاقتصادية، وعدم الركون إلى إيرادات النفط، التي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنّها وراء صدمات اقتصادية تعرضنا لها خلال العقود الماضية، ليس فقط في السنوات الخمس الأخيرة منذ التراجع الحاد في أسعار الخام، رغم زيادة إنتاجنا. فالتنويع الاقتصادي يجب ألا يكون شعارا نرفعه دون واقع ملموس، ومشروعات تترجم الأهداف المتوخاة، ووظائف بالآلاف لشبابنا الباحثين عن عمل؛ إذ نأمل تنويعًا يدعم استقرارنا الاقتصادي، بدلا من التأرجح صعودًا وهبوطًا على وقع تذبذبات أسعار النفط التي نعلم أنّها ناجمة عن أزمات سياسيّة وتشابك خيوط اللعبة العالميّة في كثير من الأحيان، وليس بسبب اضطرابات اقتصادية أو خلل في منظومة العرض والطلب.
وعندما نسعى لرسم خارطة طريق نحو نمو اقتصادي مستدام، وتحقيق طفرة اقتصادية، علينا أن نعمل وفق مسارات واضحة؛ وأول هذه المسارات الإسراع بأقصى قدرة نحو تطبيق مشاريع التنويع الاقتصادي، وهذا لن يتأتى دون تقديم التسهيلات والتيسيرات أمام القطاع الخاص، الذي يجب أن يقود قاطرة النمو، عبر مشاريع الشراكة والتخصيص ومنحه حرية الحركة الديناميكية المطلوبة في المنظومة الاقتصادية.
ونظرا لغياب التسهيلات والتبسيط في الإجراءات، فلا غرابة أن نجد مشاريع متوقفة على تصريح من إحدى الجهات، أو توقيع موظف مسؤول عن تخليص استمارة ما في ملف مشروع ضخم. ولا غرابة أيضا أن نجد أفكارا رائدة يمكن أن تتحول لمشاريع ناجحة لا تجد الاستثمار المغامر القادر على تمويلها وتقديم شتى سبل الدعم لإنجاحها، وفي المقابل هناك من يذهب إلى قلب الأزمات في أوروبا- المملكة المتحدة أو إسبانيا أو حتى إيطاليا- كي يبحث عن استثمارات هناك! وكأنّ الأرض العمانية عدمت من المشاريع؛ وكأنّ المناخ الاقتصادي في بلادنا غير مواتٍ لتنفيذ هكذا مشروعات!
إنّ ما حققناه في عُمان من تقدم ونجاحات على المستوى الدولي، بفضل السياسات الحكيمة والرؤية الثاقبة لجلالة السلطان المعظم- أيّده الله- لم ينعكس بالقدر الكافي على الاقتصاد.. نعم نتمتع بسمعة دولية مرموقة لا مثيل لها في منطقتنا، واسم عُمان يحظى باحترام وتقدير عالميين في المحافل الدولية بفضل ما تتمتع به بلادنا من حياد إيجابي وثقة دولية في قدرة عمان على أن تكون داعمة لجهود السلام والاستقرار ليس في الشرق الأوسط وحسب بل في العالم كله. ولكن في المقابل، لم نوظف هذه النجاحات في السياسة الخارجية لتحقيق النمو الاقتصادي المأمول، فكم من دولة خاضت صراعات وكانت للدبلوماسية العمانية قولها الفصل في ذلك، ثمّ تدور الدوائر وتعود هذه الدولة أو القوى الإقليمية لتنهل من معين الحكمة السامية، وتمضي على النهج العماني الذي يرى الواقع من منظور بعيد المدى عميق الرؤية والتحليل. نلنا ثقة العالم أجمع وتحولنا لقبلة للباحثين عن الاستقرار، لكن لم ننجح تمامًا في أن نكون قبلة للباحثين عن المشاريع الاقتصادي النامية.
وعندما نتحدث عن الموقع الاستراتيجي، تتعدد المزايا وتتنوع عوامل الجذب، فعُمان الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي تطل على ثلاثة بحار بالغة الأهمية ونملك جغرافيا فريدة من نوعها، فبلادنا تطل على الخليج العربي ومضيق هرمز وبحر عمان وبحر العرب المطلين على المحيط الهندي. عمان هي نقطة التقاء حضارية على مر العصور، تتشابك جغرافيتها مع دول آسيا (إيران وباكستان والهند) وتتلاصق مع محيطها العربي، وعلى مرمى خطوة من الشرق الإفريقي، ذلك السوق الواعد. ولكننا أيضا لم نروج لهذا الموقع الاستراتيجي، ولم نتمكن من تحقيق اختراق حقيقي في جهود الترويج الاستثماري لعمان بناءً على جغرافيتها، باستثناء الدقم من خلال إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة هناك.
فعلى سبيل المثال، مدينة مثل الدقم ورغم استثنائية الموقع والمقومات، لكننا وبعد نحو 10 سنوات من إنشائها لا تزال تكافح لجذب الاستثمارات الأجنبية. ومع إنفاق ما يربو على الملياري ريال عماني على مشاريع البنية الأساسية من طرق ومطارات وموانئ وخطوط كهرباء ومياه وغيرها من المشاريع، نريد أن نروي قصص نجاح متنوعة لمشاريع وجدَت في الدقم البيئة الحاضنة لها، فنمت الاستثمارات ووظفت قوى وطنية عاملة، لكن الواقع أنّ المشاريع لا تزال محدودة والتقدم المُحرز يظل دون مستوى الطموح المأمول، ولا يتماشى مطلقا مع ما يتم إنفاقه على البنية الأساسية والتسهيلات المقدمة. وهنا أوجه الدعوة لكبار المستثمرين والصناديق السيادية وصناديق التقاعد أن تخصص جانبا من استثماراتها في تطوير مشاريع متنوعة في الدقم لزيادة جدوى الاستثمارات فيها، ومن أجل توظيف شبابنا من الباحثين عن عمل والذي يُقدر عددهم الآن بأكثر من 50 ألف باحث، وهؤلاء في أمس الحاجة للبعد عن الحلول التقليدية التي دأبت وزارة القوى العاملة على تطبيقها، فلم يعد مجديا أن نفرض نسبة تعمين على قطاعات بعينها وهناك مخرجات تعليمية غير متخصصة في هذه القطاعات، فيكون البديل هو "التعمين المقنَّع" مع استمرار المشكلة وتفاقمها. ولذا نقترح توسعة المجال أمام الشباب نحو المشاريع الحرة، وزيادة مخصصات التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وقيام كبرى مؤسسات القطاع الخاص (بنوك وشركات نفط وشركات استثمارية) بتبني أفكار الشباب وتحويلها إلى مشاريع ناشئة على أرض الواقع. نريد قرارات غير تقليدية، ننادي بخفض أسعار الفائدة على المشاريع التنموية، ليس فقط من بنك التنمية العماني، ولكن أيضا من البنوك الخاصة العاملة، على هذه البنوك أن توجهه مخصصات الإقراض إلى المشاريع الاستثمارية وليس للقروض الاستهلاكية التي قد تزيد التضخم وتضعف القوة الشرائية.
نقترح كذلك دورًا أكبر لشركات القطاع الخاص في استيعاب الباحثين عن عمل من خلال توسعة أنشطتها التجارية، ومضاعفة الإنتاج، إذ يجب أن يكون قطاع التصنيع من بين القطاعات القائدة للنمو الاقتصادي، ومن جهة أخرى تحصل هذه الشركات على امتيازات وحوافز من الحكومة.
وختاما.. إنّ تشخيصًا أمينًا لما حققناه من منجزات وما أحرزناه من تقدم، يؤكد أنّ الاقتصاد لا يحتل الترتيب الذي ينبغي أن يكون عليه، ولذا يتعيّن فورا- دون تأجيل- أن نضع هذا الملف على رأس الأولويات الوطنية، وأن نستهدف تعميق الاقتصاد وتوسعته بما يقضي على موجة الانكماش التي بدأت قبل سنوات، ونخطو بثبات لتحقيق الإصلاح الاقتصادي المنشود، وهذا يتطلب قرارات جريئة وسياسات حاسمة بعيدا عن سياسة البطء في التنفيذ.. إنّها مرحلة تضافر الجهود التي تتطلب سواعدنا جميعا لبناء اقتصاد قوي ومتين.