ما جنته المدنيّة على السِّلم الاجتماعي (2)

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

خلفت الطفرة المدنية على وجه الحياة الاجتماعية ندوبا، وتركت على جسدها آثارا لا تكاد تخفى على متأمل أو متطلع أو متحسس لمتغيرات الحياة شكلا وموضوعا، حتى يختلط على القادم من حقبة تاريخية قريبة أمر المجتمع وطباعه وتقاليده، فلا يكاد يُبين من موروثه التاريخي الحديث شيئا من خلق، أو أدب، أو عادة اجتماعية، أو أسرية، فضلا عن التاريخ القديم.

هذا البيت الأسري الذي كان (عماده) مهيبا مطاعا، قائما بأمر بيته وعليه، وكانت حاضنته وَدُودَةً صبورة راضية باسمة، وكان فتيانه طوعا لآباءهم، وإكبارا لمعلميهم وكبراءهم.. حالت على هذا الصرح الحلول، وتكالبت عليه طوارق المدنيّة من كل وجه، حتى أحالته إلى كيان متهاوٍ متهالك كأنما شِيد على شَفا جرفٍ هارٍ؛ فلم يستطع العماد أن يقوم بحق البيت بحاضنته وفتيانه الذين خرجت حاجاتهم عن مألوف الأسرة الأولى، وأصبح من غير المستطاع الوفاء بقوام هذا البيت ولا حاجة ساكنيه، فتبرم الصغير والكبير، وتمرد الجميع على هذه الحياة المقترة التي يُفتقَدُ فيها لوسائل الترف والسفه.

وهنا ينحل الرباط شيئا فشيئا، ويُوهَن الميثاق الغليظ، وتضعف نواة المجتمع وقلعته الحصينة رويدا رويدا حتى يوشك البناء الاجتماعي أن يتهاوى.

هذه اللوحة الأسرية المَشِيْدة قديما، المصنوعة على عين.. البيت في انتظار الأب من عودة العمل، أحاديث الطعام، ثم هذه الحوزة الأدبية العفوية، واللمة الأسرية التي تموج بالأسئلة والآداب والتربية والتوجيه والتوبيخ والتعليم، والعتاب والحساب، والحرص على نحلة الأدب والدين والتربية، تزينها ضحكات الأبناء الساذجة المفعمة بروح الحياة والمستقبل، وتأنيب الآباء، وشفاعة الأمهات.. هذا الكيان المؤتلف المصوغ من إرث التاريخ والأديان والآباء والأجداد والأوطان، قد أتت عليه يد الدهر كما يُقال، فتبدل من بعد البسطة والبسمة همًّا وشذرًا وشغلا، ودخل إليه كائن يسمى الهاتف (الجوال أو الخِليوي أو المحمول أو النقال أو GSM) وإن تعددت مسمياته فقد بدد ضحكاته وبستطه وأريحيته من السكن والمودة والرحمة، إلى صور وأيقونات وعلامات وإشارات ومشاعر معلبة مجوفة.

تحولت هذه المشاعر الاجتماعية والأسرية إلى رسوم وأشكال على وسائل التواصل، حتى استعيض بها عن الحديث بين الأسرة والأصدقاء والأرحام والبيوت، وحلّ الاتصال التليفوني محل الزيارة، ثم تحول الاتصال إلى رسالة مكتوبة لا تعرف ما تحمل بين طياتها من روح صديقك أو رحِمِكَ، ثم جاء بدلا منها الرسائل المكتوبة، ثم المصورة، ثم الأيقونات التي جعلت للمشاركة والإعجاب والحزن والغضب؛ ثم صارت هذي مشاعر الأمة وروحها في الحروب والأزمات والنكسات والهزائم المتوالية، وكذلك هي بطولتها وشجاعتها وإقبالها وإدبارها، وروحها القتالية..

أدارت الموائد الغربية برجالها الشقر ونسائها المُسترجلة اقتصادنا وإعلامنا وصراعنا وحروبنا وحياتنا الأسرية، وكفتنا مؤونة التفكير والتدبير والصول والجول.

وفي ظل هذا السُّعار أو الصراع الاجتماعي، وعمق الهوة الطبقية بين الشرائح المجتمعية، طما أيضا سُعار الاستثمار حتى طغى على الوظائف الموسومة تاريخيا بـ(الإنسانية) من كثرة ما يميزها من روح العطاء والاستغناء والتفاني، كمهنة (الطب والتعليم)؛ هذه المهن التي جبل أهلوها على العطاء دون انتظار المقابل وإن كانوا مضطرين في مخمصة، أو كان بهم خصاصة.

فشيدت المستشفيات الخاصة (الخمس نجوم)، وتاجرت بأوجاع الناس وأمراضهم وأعضائهم حتى احتجز الموتى رهن دفع الفواتير الباهظة، وحتى اضطرت ذوات الأحمال أن يضعن حملهن أمام أبواب المستشفيات الفاخرة.. وتوارت صورة الطبيب المثالية التي كنا نراها في الأفلام القديمة بلغته الأنيقة، وأدبه الجمّ، وتفانيه بين يدي مرضاه لبلوغ الشفاء..

وعلى الجانب الآخر.. أهدت المدارس الخاصة (التغريبية) للغرب ما عجزت عنه في عشرات السنين الحملات الاستعمارية التي قادتها الإمبراطورية العظمى، وأسقطت في طريقه حكومات ووزارات وأقامت مكانها أخرى، فجعلت هذه المدارس من اللغة الإنجليزية لغة أولى، وغزت الروح التغريبية الأسرة المصرية مفاخرة بها، وتوارى اللسان العربي حتى غدا غريبا بين أهله، حتى العامية تكسرت وحل محلها (الفرانكو أراب).

ثم حدث هذا الانقلاب، أو إعادة الصياغة لمعادلة (التفوق العلمي) تحت مسميات كليات القمة، التي كانت المغنم والمأمل الوحيد تقريبا للبسطاء والكادحين، والذي شهدت به شهود التاريخ الحديث فضلا عن القديم، إذ لم يخرج رواد الثقافة والنباهة والريادة العلمية في هذا الوطن إلا من رحم الشقاء والكادحين ـ إلا القليل ـ وهي حيلة المحرومين التي يمنون بها نفوسهم المتعبة، وآمالهم التي يعلقونها من تقدير هذا الوطن؛ بل لم تستطع رحلة الإقطاع بأموالها واستحواذها السلطوي أن تغير شيئا من بنود هذه المعادلة الفطرية، وليس أدل على ذلك من هاؤم الصفوة الذين لمعت نجومهم في سماء مصر الحديثة (أسرة محمد على) وقد أجمع المجتمع والغرب على نبوغهم.

وقد عنون الأستاذ جمال بدوي في كتابه (محمد على وأولاده) أحد الفصول بعنوان (إبراهيم باشا النبراوي ـ بائع البطيخ الذي أصبح نابغة في الطب)، وقد قدم من قعر الريف المصري فتى غِرَّا يبيع البطيخ، فالتحق بالأزهر، ولما ظهرت براعته أوفد مع الوفود إلى فرنسا ليدرس الطب ثم أكمل حتى حصل على الدكتوراه، ومُنِحَ رتبة الباشوية من الباب العالي، وصار علما تاريخيا على الريادة في الطب.

 

مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين فتحت الجامعات الخاصة أبوابها على مصاريعها (لمن يملك)، ينافس فيها الأغنياء الفقراء في جهد الليل والنهار، وعرق السنوات، ونزيف الساعات، فنافس المترفون (أبناءهم) أبناء البسطاء على كليات القمة، وقدمت للمجتمع بعض النماذج المفرغة من المضامين العلمية والعقلية خاصة في (الطب والهندسة).

هذا الكيان الوطني الاجتماعي الذي تخلخلت ثوابته الأخلاقية والقيمية والأسرية والدينية، بل والعلمية، وقد تهاوى بعضها، ويوشك البعض أن يلحق به؛ مالم يكن منا استدراكا لهذا الزحف المدني التكنولوجي وإخضاعه للدراسة والتحليل من قبل علماء النفس والاجتماع والأنثربولوجيا والسياسة، ننظر آثاره على المجتمع وقيمه وموروثاته وآدابه، ثم نحاول التصدي لسلبياته والاستفادة من إيجابياته، والحد من انتشاره.

هذه الأجيال القادمة تحتاج إلى إعادة هيكلة نفسية وبرامج تربية خاصة، وصياغة جديدة للوعي والعقل الأولي (المكتسب) والمتشكل في المراحل العمرية الأولى، وانتقاء المدخلات التربوية والدينية والثقافية الأولى لتهيئة هذه العقول للتعاطي مع تلك القوادم الهاجمة من الغرب بما معها من ثقافات وأفكار، ثم لا يُضارّ العقل المؤصل على القيم والامتداد الثقافي والحضاري والديني أن يتعاطى مع الجديد بالتحليل والتدقيق، يأخذ النافع ويطرح الطالح.

لقد استطاعت التجربة الصينية استقبال هذه الوارادات الغربية (التكنولوجية والثقافية)، واستطاعت إعادة صياغتها بنكهتها الحضارية والثقافية (الصينية)، ثم إعادة تصديرها إلى كل بقاع العالم تغزوه بما فيهم الغرب أنفسهم، دون أن تنال من إرثها الثقافي والديني واللغوي والتاريخي، ولا حتى الشكل الاجتماعي وعاداته وتقاليده.

ولاشك أن حالة الانفصام التي ضربت بقوة في جذور ثقافتنا وفصمت عرى التواصل الحضاري بين أجيال الألفية الثانية وحضارتهم الفرعونية، وهي الحال التي أطلق عليها علماء الاجتماع اصطلاحا "الذوبان الثقافي" صاحبها اندثار للغة المصرية القديمة التي كانت مركز الثقل في بناء الهُوية والعمق الثقافي والتاريخي، وهو نفسه السبب الذي استطاعت به الصين التواصل مع حضارتها القديمة بـ(الإبقاء على اللغة الصينية القديمة)، وهو أيضا ما يوشك أن يطيح بثوابت هذا المجتمع وقيمه بعد تراجع اللغة والهوية تدريجيا ثم اندثارها.

 

تعليق عبر الفيس بوك