أنيسة الهوتية
يُولد الإنسانُ طفلاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة، بكاؤه هو سلاحه الوحيد للتعبير عن جوعه، ألمه وخوفه. وسبحان الله الذي زرع له بداخلنا المحبةً والرحمةً والرأفة كَي نحتويه؛ فإننا نتألم للأطفال أكثر من الكبار لعلمنا بضعفهم وقلة حيلتهم. ونغضب إذا سمعنا عن جريمة اعتداء على طفل، ونُستفز لحرمانه من حقوقه الإنسانية. ولا تهيج بنا هذه المشاعر إلا لفطرة خلقها الله تعالى في قلوبنا تسخيراً لاستمرار البشرية.
والإنسان الصغير هذا، يولد بلا طموح ولا رغبات سوى حليب يشبع بطنه، وأم حنون تُشعرهُ بالحنان والأمان ويتعلق قلبه الصغير بها ولا يصبر عنها فهي حبه الأول والأبدي.
وتبدأ مُغامرات كل طفل في بيئته من خلال تعلمه واستكشافاته، وتختلف الثقافات والأهداف لديهم باختلاف العقائد الدينية والعادات المُجتمعية والثقافية والميول الاستطلاعي.
وهنا.. أقف وقفةً عند أطفال فلسطين، سوريا، العراق، اليمن...وغيرها من الدول التي تُعاني الحروب بأنواعها، أطفالٌ مَحرومون من أبسط حقوقهم البشرية: بيت آمن، طعام طيب، لِباس ساتر، وعِلم ينتفع به فإن العلم من أساسيات الحياة.
هؤلاء الأطفال الذين يعيشون حياة غير طبيعية في عهد البشرية الحالي تحت ظل التعليم المتطور والتكنولوجيا الذي لا يطالهم منه شيء؟! ماذا سيكون مصير مستقبلهم والأجيال التي تليهم؟
ما هي مغامراتهم اليومية التي سيحكونها لأبنائهم وأحفادهم -إذا عاشوا- كيف سيتحدثون عن حلمهم الذي كان يلاحق رغيف خبز ساخنًا، وكوباً من الحليب! حلمهم الذي لم يطالوه لأن أصوات انفجارات القنابل وإطلاق النيران من البنادق كان دائما يوقظهم من نومة الجوع إلى يقظة الخوف.
أتخيَّل ذلك الطفل الفلسطيني عجوزاً يروي قصته لأحفاده بأنه كان يركض حافياً في شوارع غزة خائفاً من أصوات قنابل "الصهاينة"، يتوارى عن أعينهم في تلك الأزقة حتى يصل إلى بيته كي يحتمي بأمه، فيجد البيت مهدوماً وأمه ماتت تحت أنقاضه ووالده تم رميه بالرصاص كغيره من الشهداء.
ولَن أكتب عن البقية هنا، فأنا في خَجلٍ أن أتخيل روايات الآخرين؛ فالفلسطيني سيتحدث عن جهاده ضد الصهاينة ومقاومته لهم، ولكن عن من سيتحدث الباقون!! عن إخوتهم؟ أعمامهم؟ أخوالهم؟ جيرانهم؟
ولكني سأكتب تساؤلاً: هل تخيَّلنا كيف ستكون شخصياتهم وعقلياتهم حين يكبرون؟ لا لن نخشى عليهم من قسوة الحياة أيًّا كانوا، أُميين، فقراء، نازحين، لاجئين، مُستغلين. لأن ما مروا به وكبروا عليه في نعومة أظفارهم أقسى مما سيروه وهُم مُشتدي العود تجرعوه سُماً لم يقتلهم! واكتساب المناعة من السُمِ قوة. نعم، قوة باطنية جبارة لا نتصورها في أي جيل غيرهم؛ فالنار التي أُضرمت بقهر قلوبهم وتغذت بغضبهم وحزنهم قنبلة موقوتة ستنفجر في يومٍ ما وعلينا ألا ننسى بأن "النار ليس لها ظِل".
فصبوا على هذه النار ماءً كَي تكونَ برداً وسلاما، ولا تكونوا كمن سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل.
فيا أمة قال عنكِ نبيك إنكِ كالجسد الواحد، ها قَد اشتكىَ مِنكِ عُضوٌ فَتَداعَي لهُ بالحمى والسهر.
وللهِ مِن قَبلُ ومِن بَعدُ مَا أمر.