رحم الله ابن مريخ

 

علي بن سالم كفيتان

عرفته رجلاً متواضعًا لا يكاد يُسمعك صوته ولا يُقاطعك ما دمت محتاجاً للكلام في حضرته فهو يستمع أكثر مما يتكلم وقراراته عقلانية أكثر منها عاطفية، فلا تكاد تقابله إلا ويسبقك أبو باسم بابتسامة عريضة تنم عن احترام جم، له من رصيد العمل الوطني ما يتمناه الكثير من المحدثين الذين ينعقون ليل نهار ويتشدقون بحب الوطن وليس لهم رصيد على أرض الواقع، غير مجموعة تغريدات لا تسمن ولا تغني من جوع.

اتصل بي ذات مرة طالباً أن أحضر له نسخة من بحث قدمته في الندوة الأولى للتُراث العُماني عام ١٩٩٤ وكنت يومها حديث التخرج ولا أخفيكم فقد تهيبت الرجل الذي طالما سمعت عنه كثيراً وعندما حضرت وجدته جالسًا في مجلسه العامر وحدثني قرابة الساعتين كنَّا فيها لوحدنا مع التاريخ والنضال ولا أعتقد أنَّ بحثي سيضيف جديدا على فكر هذه الهامة الوطنية رفيعة المستوى ومع ذلك تواصل معي بعد قرابة أسبوع وكان يشكرني بأجمل العبارات ويُثني على محاور تلك الورقة التي تحدثت عن الدور التاريخي للبان في جنوب الجزيرة العربية.

كما لا زلت استحضر تفاعله الرائع مع مُقررات ندوة التصحر عام 2002 التي عقدت في رحاب سهل المعمورة بظفار وهنا حضوره كشيخ وليس كباحث أو مناضل فقد كانت مداخلات بن مريخ مثرية وكان يحمل رحمه الله مشروعاً نضالياً لإعادة جبال ظفار إلى سابق عهدها فصورته مع الأمير تشارلز ولي عهد إنجلترا والرئيس الفخري للاتحاد الدولي لصون الطبيعة على سفوح عقبة طوق عام ١٩٩٤، لا زالت حاضرة في ذهني حيث قدم الأهالي في تلك البقاع مشروعاً لإعادة إراحة المراعي لا زال صامدا إلى اليوم فكان ذلك نضال من نوع آخر.

كان المناضل سعيد بن مسعود مريخ بيت سعيد الذي انتقل إلى جوار ربه الخميس الماضي قومياً عروبيًا بامتياز ولم يحد عن خطه فاستمسك بربه وظل مؤمناً وتقياً عندما تغيرت الأيدولوجيات فجعل من نفسه نموذجا فريداً لقادة جبهة تحرير ظفار من الرعيل الأول الذين ثاروا على الظلم وآمنوا بالتغيير وانحازوا لحكومة صاحب الجلالة ولا تكاد تخلوا أدبيات جبهة تحرير ظفار من اسم بن مريخ ورغم انزوائه وعدم شغله لأي منصب عام بعد عودته إلا أنَّه أمتلك قوة تأثير إيجابية جندها لوحدة بلاده حيث كان أحد رواد الأعمال في القطاع الخاص وساهم مساهمة فاعلة في إدارة مجموعة من الشركات الكبرى في محافظة ظفار.

ابن مريخ الإنسان ينتمي لأسرة عريقة في ظفار اشتهر رجالها بحب العلم والثبات على الدين فتجد بينهم الشيخ الموقر والمحاضر الجامعي والعالم بالأنساب والمؤلف المتمكن والأستاذ المربي للأجيال والشاعر المفوه ...إلخ ولقد استمد أبو باسم مواقفه المتزنة من تقييمه العقلاني للأمور لذلك لم تكن تروق بعض تلك التوجهات للمجتمعات التي تطغى فيها العاطفة ذات التوجه الفئوي فالرجل كان منفتحاً على الجميع ويؤمن بالمجتمع الواحد المتعدد الأطياف ويرى في ذلك غنى وحصانة للموروثات والقيم التي يتبناها المجتمع ويدافع عنها منذ قرون.

في هذا المقال لا يُمكن الحديث بإسهاب عن رجل فرض وجوده حياً وميتاً فمع مغادرته للدنيا لن يخبو نجم بن مريخ لأنَّ التاريخ قد خط أسمه كثائر عربي ومصلح اجتماعي بارز أعمل عقله قبل عاطفته واستخدم مهاراته ودهاءه لتمكين الحرية والعدالة الاجتماعية في عُمان الوطن وفي ظفار المهد الذي احتضن التغيير ولا شك أنّ أبناءه وبقية أفراد أسرته الكريمة ماضون على نهجه مقتفين أثره الذي يتشرف به كل منتسب إليه. فرحم الله ابن مريخ.