يا نَبي سلام عليك.. صلوات الله عليك

أنيسة الهوتية

حِينَ خَتمت القرآن الكريم في عُمر السابعة بمدرسة جدتي المعلمة حليمة بنت حمد- رحمها الله- أقامت لي حفل ختم القرآن، وأعطتني مصحفاً جديداً وعباءة رأس بحجمي الصغير، وَضَعَته على رأسي وقبلتني على جبيني قُبلة حُبِ ورضا؛ أشعرتني بمشاعر لم أفهمها في ذلك العمر الصغير، إلا أن حُمرة غلاف المصحف كانت جذابة.

أما عباءة الرأس فحكاية أخرى، ولطالما كنت أشاكس أمي- رحمها الله- بأني أريد عباءة، وكانت تقول لي ما زلتي صغيرة! فحصولي على العباءة إثبات بأني لست صغيرة.

وعندما دَخلت البيت وجدت أبي- رحمه الله- على كرسيه يقرأ كتاباً كعادته، فركضت إليه وأريته هداياي، فابتسم لي وأعطاني هدية كُتيب عنوانه "عذاب القبر". أخذته وذهبت إلى خزانتي أضع أغراضي وأنا سعيدة لحصولي على ثلاثة هدايا، وما زلت أنتظر الدمية ذات الثوب الأحمر، وماكينة الخياطة الزهرية، وتاج الورد الأبيض؛ تمنيت أن يهدونني إياها مُذ رأيتهم في صينية المرأة التي تبيع الحلويات والألعاب أمام مستشفى الرحمة.

خرجت من عالم الأحلام وأخذت كُتيبي وذهبت إلى أبي أسأله: ما هو القبر ولماذا فيه عذاب؟ وقبل أن يرد على سؤالي، قرأت عنوان الكتاب الذي بيده "السيرة النبوية" فسألته: ما هي السيرة النبوية؟ ومع هذا السؤال تغيرت حياتي ورغباتي الدنيوية كُلياً مُنذ ذلك اليوم.

فعشقته سيد الكونين والثقلين والفريقين من عُرب ومن عَجَمِ

هو الحَبيبُ الذي تُرجى شفاعته في كُل هَولِ من الأهوال مُقتَحَم

ومَن كَمحمد في البشرية ومن كصفاته سُبحان من خلقه حبيباً نبيا، ما كان قلبي يرتاح إلا وأنا أسمع عنه وعن أحاديثه وسيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حتى إنني كنت أغبطُ الصحابة وأمهات المؤمنين لرؤيتهم الحبيب والعيش معه.

وفي عُمر التاسعة، عشت حُزناً لأيام عدة بكيتُ فيها ليل نهار، لم أشتهي الماء والطعام، فجاء أبي إلي وسألني: هل آذاكِ أحد فأنتِ لا تعانين من حمى وعليكِ أعراضها، وفحوصاتك كلها سليمة؟ لكنك ما زلتِ مريضة! ماذا تخبئين هُنا، وأشار بإصبعه على قلبي؟

حضنته بقوة وأجهشت بالبكاء حتى إنني لم أستطع أن ألتقط أنفاسي، وشكوت إليه حزني: "لماذا يُتوفى رسول الله يا أبي؟ لماذا يمرض ويتعب حبيبنا محمد، ليتني تألمت ومرضت عنه. أنا أحبه يا أبي وأتوجع لما مر به، ولا أريد هذه الدنيا إذا هو ليس بها".

كانت تلك الليلة فاصلة حُزني، وتعلمت من أبي أن الله تعالى له حكمه في وفاة الأنبياء والرُسُل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسيبقى رسول الله حياً بيننا ما دمنا نتبعه.

ليسَ أزكى منك أصلاً قطُ يا جَد الحُسين

ومن رأى وجهك يسعد يا كريم الوالدين

يا حَبيبي يا مُحمد يا عَروس الخافقين

يا مؤيد يا مُمجَد يا إمام القِبلتين

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- الأحزاب آية 56.